
الخامسة والستين، ومع هذا لم يتزوج مع غيرها مع عدم المانع، ثم تزوج بعائشة مع صغر سنها، وبحفصة مع عدم جمالها، وأم سلمة مع كثرة عيالها وكبر سنها كل هذا لإرضاء أصحابه ورجال دعوته، وجبرا لخاطر امرأة كأم سلمة هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وإلى المدينة لما مات زوجها، أليس من المروءة أن يجبر خاطرها حتى يطمئن كل قواده وجنوده على أهليهم بعد وفاتهم، وهذه سودة العجوز ليس الزواج بها لشهوة، وهذه زينب بنت جحش قد عرفت قصتها سابقا، وأما النساء الباقيات فأم حبيبة بنت أبى سفيان زعيم قريش أسلمت قبل أبيها وهاجرت إلى الحبشة ثم لما مات زوجها تزوجها النبي إكراما لها وتقديرا لعملها، وصفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود، وجويرية بنت الحارث زعيم بنى المصطلق وقد هزمت قبيلتهما فأراد النبي أن يجبر خاطر صفية وجويرية فتزوجهما لأسباب سياسية لا تخفى على قائد جماعة وصاحب دعوة.
ولا يظن أحد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعيش عيشة المترفين في بيته، فهذه عائشة يروى أنها قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله نار! فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء.
فعلى رسلكم أيها النقاد بغير علم، أو بعلم، وقد أعماكم هذا التعصب الذي يجعل القلوب في أكنة بعيدة عن نور الحق، هذه حياة النبي، وتلك ظروف زوجاته كلهن فما تزوج لجمال أو لشباب، أو لطلب رفاهية؟ وما كان صلّى الله عليه وسلّم مترفا في مأكل أو مشرب أو مسكن «تقول عائشة: لقد توفى رسول الله وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي»، وكان الحصير يؤثر في جنبه صلّى الله عليه وسلّم
ما وجب على المؤمنين نحو بيت النبي مع آية الحجاب [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)

المفردات:
إِناهُ: منتظرين نضجه، وأصل الكلمة من: أنى الشيء يأنى إناه: إذا حان إدراكه، وفي شرح القاموس: (أنى) بمعنى أدرك وبلغ. فَانْتَشِرُوا: اذهبوا حيث شئتم وتفرقوا. مَتاعاً المراد: ما يحتاج إليه وينتفع به من سائر المرافق.
هذه الآيات تضمنت أمرين مهمين:
أولهما: الآداب العامة عند الطعام والجلوس له.
ثانيهما: الحجاب وعدم الاختلاط، وقد نزلت الآيات في بيت النبي، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما الأمر الأول: فالجمهور من المفسرين على أن سبب النزول هو: لما تزوج النبي من زينب بنت جحش أولم عليها ودعا الناس، فلما طعموا جلس بعض الناس يتحدثون في بيت رسول الله، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط- إذ البيت عبارة عن حجرة واحدة- فثقلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أنس بن مالك: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج

وخرجت معه لكي يخرجوا وقد تباطأ القوم في الخروج، قال أنس: وأخبرت النبي أن القوم خرجوا، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، فأنزل الله- عز وجل-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى قوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً روى هذا الحديث بالمعنى، وأصله موجود في البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس: أنها نزلت في أناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثمّ يأكلون ولا يخرجون. وقال بعضهم: هذا أدب أدب الله به الثقلاء.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلا في حال قد أذن لكم فيه إلى طعام غير منتظرين نضجه، أى: لا تدخلوا بيوت النبي إلا في وقت الإذن لكم إلى طعام، ولا تدخلوه إلا غير منتظرين إناه، ولكن إذا دعيتم إلى الطعام وأذن لكم في الدخول فادخلوا فإذا طعمتم فاذهبوا متفرقين، ولا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل بعضهم في وليمة زينب جحش.
إن ذلكم كان يؤذى النبي، وأى إيذاء أكبر من بقاء عامة الناس في بيت الزوجية؟
الذي هو حق لها، وسكن الزوج مع زوجته، وكان النبي يستحى ويمتنع من إظهار ألمه لكم، ولكن الله لا يستحيى من إظهار الحق. بل يبين للناس ما به يتأدبون بأدب القرآن فاعلموا أن هذا الانتظار خطأ وحرام عليكم فلا تعودوا لمثله أبدا.
روى أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فنزلت الآية.
وانظر إلى القرآن وهو يعالج أمر الحجاب مبتدئا بأمهات المؤمنين اللائي هن أطهر النساء وأعفهن، حتى نتبصر في أمرنا حينما يقال لنا: إنا نختلط ولا يحصل شيء أبدا، ولست أدرى: ما سبب الحوادث التي نقرؤها كل يوم في الجرائد عن الخيانات والقتل والطلاق؟! أليس مرجعها كلها إلى ضعف الوازع الديني وإلى الاختلاط في البيوت والشارع بل وفي المقاهى والمسارح والمصايف؟!

وإذا سألتموهن- نساء النبي- متاعا أى متاع في الدين والدنيا فاسألوهن من وراء حجاب.
ذلكم، أى: ما ذكر من الاستئذان قبل الدخول، وعدم الاستئناس للحديث، وسؤال المتاع من وراء الحجاب ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر التي تعرض لكل رجل وامرأة إذا اختلى بها، وذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة وأمنع في الحصانة.
أليس هذا دليلا على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن وأحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
وإذا كان هذا حال الرعيل الأول من المسلمين فما بالنا اليوم؟ اللهم نسألك اللطف والهداية والرحمة.
وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا ينبغي منكم ذلك.
وما كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، فإنهن أمهات المؤمنين، ولا يليق بكم أن تفعلوا ذلك أبدا. وهذه الآية رد على من قال: إذا مات رسول الله أتزوج عائشة من بعده، إن ذلكم المذكور من ألم رسول الله بدخول الناس بدون إذن أو مكثهم لغير حاجة أو طلبهم نكاح أزواجه من بعده، إن ذلكم كان عند الله عظيما، فلا ذنب أعظم منه، وهذا يفيد أن هذه من الكبائر، واعلموا أن الله يعلم الغيب والشهادة وهو العليم بذات الصدور، فإن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله بكل شيء عليم، وسيجازى عليه.
ولما نزلت آية الحجاب تساءل بعض أقارب أمهات المؤمنين: أنحن نكلمهم من وراء حجاب؟ فرد الله عليهم بقوله: لا جناح عليهن ولا إثم في أن يكلمن آباءهن أو أبناءهن، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد، وكذا بقية المحارم التي ذكرت في سورة النور كالعم والخال مثلا.
واتقين الله- أيها النساء- فأنتن سبب الاختلاط، وعليكن الوزر الأكبر فيه، إذ المرأة هي التي تستطيع رد الرجل، ويستحيل عليه أن يتمكن منها إلا برضاها، ولذا خصهن بالأمر بالتقوى، إن الله كان على كل شيء شهيدا ورقيبا، فاحذروه، واتقوه، واعلموا أنّه يراكم ويحصى عليكم أعمالكم.