
ووضع الصادقين موضع ضميرهم، للإيذان من أول الأمر، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه. وإنما السؤال لحكمة تقتضيه. أي ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم. أو عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم. كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: ١٠٩]، أو المصدقين لهم عن تصديقهم.
أفاده أبو السعود وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً أي لمن كفر من أممهم عذابا موجعا.
ونحن- كما قال ابن كثير- نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجليّ، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء.
وإن كذبهم من كذبهم من الجهة والمعاندين والمارقين والقاسطين. فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال. انتهى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الأحزاب فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة. أو ما أتى من الريح من طيور الجوّ وجراثيمه، المشوشة للقارّ المقلقلة للهادئ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٠ الى ١٣]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أعلى الوادي وأسفله، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي مالت عن سننها ومستوى نظرها، حيرة وشخوصا وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي منتهى الحلقوم لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع، وبارتفاعها ترتفع القلوب. وذلك من شدة الغم. أو هو مثل في اضطراب القلوب. وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي أنواع الظنون المختلفة هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل، والمؤمن من المنافق وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي أزعجوا أشد

الإزعاج من شدة الخوف والفزع، أو من كثرة الأعداء.
فائدة:
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر (الظنونا) بإثبات ألف بعد النون، وبعد لام الرسول، في قوله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الأحزاب: ٦٦]، ولام السبيل، في قوله فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: ٦٧]، وصلا ووقفا، موافقة للرسم. لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف، كذلك. وأيضا فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة. وهاء السكت تثبت وقفا للحاجة إليها. وقد ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف، فكذلك هذه الألف. وقرأ أبو عمرو وحمزة بحذفها في الحالين. لأنها لا أصل لها. وقولهم (أجريت الفواصل مجرى القوافي) غير معتدّ به. لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالبا. والفواصل لا يلزم ذلك فيها، فلا تشبه بها،. والباقون بإثباتها وقفا، وحذفها وصلا، إجراء للفواصل مجرى القوافي، في ثبوت ألف الإطلاق. ولأنها كهاء السكت. وهي تثبت وقفا، وتحذف وصلا، أفاده السمين.
ثم أشار تعالى إلى ما ظهر من المنافقين في تلك الشدة، بقوله سبحانه وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شبهة. تنفسا بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم، وفرصة لانطلاق ألسنتهم، بما تكنّ صدورهم. لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال، وحصر العدوّ لهم ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي من النصر إِلَّا غُرُوراً أي باطلا وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ وهي أرض المدينة لا مُقامَ لَكُمْ بضم الميم وفتحها، قراءتان. أي لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة أو نواحيها لغلبة الأعداء فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم من المدينة هاربين.
أو فارجعوا عن الإسلام كفارا ليمكنكم المقام.
فائدة:
(يثرب) من أسماء المدينة. كما في الصحيح «١» : أريت في المنام دار هجرتكم. أرض بين حرتين. فذهب وهلي أنها هجر. فإذا هي يثرب (وفي لفظ:
المدينة).
قال ابن كثير: فأما
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «٢» عن البراء قال: قال
(٢) أخرجه في مسنده ٤/ ٢٨٥.