
رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنِّي أَمْشِي فِي حَمَّامٍ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، قَالَ: فَلَمَّا أَخْبَرْتُهُ وَفَرَغْتُ قررت وذهب عني الدفء فَأَدْنَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منه وأنا مني عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَأَلْقَى عَلَيَّ طَرَفَ ثوبه وألزق صدري ببطن قدمه فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: قُمْ يَا نومان.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١٠]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠)
قوله عزّ وجلّ: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، أَيْ مِنْ فَوْقِ الْوَادِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَهُمْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَعَلَيْهِمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ [١] وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي أَلْفٍ مِنْ غَطَفَانَ وَمَعَهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ فِي بَنِي أَسَدٍ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، يَعْنِي مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي قُرَيْشٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ السُّلَمِيُّ مِنْ قِبَلِ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ [٢] الَّذِي جَرَّ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ فِيمَا قِيلَ إِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ، مَالَتْ وَشَخَصَتْ مِنَ الرُّعْبِ، وَقِيلَ: مَالَتْ عَنْ كُلِّ شيء فلم تنظر [إلا] [٣] إِلَى عَدُوِّهَا، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، فَزَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا حَتَّى بَلَغَتِ الْحُلُوقَ مِنَ الْفَزَعِ، وَالْحَنْجَرَةُ جَوْفُ الْحُلْقُومِ وَهَذَا عَلَى التَّمْثِيلِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَبُنُوا وَسَبِيلُ الْجَبَانِ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُ أَنْ تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فَإِذَا انْتَفَخَتِ الرِّئَةُ رَفَعَتِ الْقَلْبَ إِلَى الْحَنْجَرَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْجَبَانِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، أَيْ اخْتَلَفَتِ الظُّنُونُ فَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ اسْتِئْصَالَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ الله عَنْهُمْ، وَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ لَهُمْ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وأبو بكر: الظنونا والرسولا والسبيلا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَصْلًا وَوَقْفًا لِأَنَّهَا مثبتة في المصاحف بالألف، وَقَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ بِغَيْرِ الْأَلْفِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ دون الوصل لموافقة رؤوس الآي.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١١ الى ١٤]
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤)
هُنالِكَ ابْتُلِيَ، أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ اخْتُبِرَ، الْمُؤْمِنُونَ، بِالْحَصْرِ وَالْقِتَالِ لِيَتَبَيَّنَ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً، حُرِّكُوا حَرَكَةً شَدِيدَةً.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ، مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
(٢) زيد في المطبوع «السبب».
(٣) زيادة عن المخطوط.

شَكٌّ وَضَعْفُ اعْتِقَادٍ، مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ النِّفَاقِ: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ فَتْحَ قُصُورِ الشَّامِ وَفَارِسَ وَأَحَدُنَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُجَاوِزَ رَحْلَهُ، هَذَا وَاللَّهِ الْغُرُورُ.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، يَعْنِي الْمَدِينَةَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَثْرِبُ [اسْمُ أرض] [١] مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ:
«١٦٨٩» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُسَمَّى الْمَدِينَةُ يَثْرِبَ، وَقَالَ: «هِيَ طَابَةُ»، كَأَنَّهُ كَرِهَ [هَذِهِ اللَّفْظَةَ] [٢] لَا مُقامَ لَكُمْ، قَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ لَا مَكَانَ لَكُمْ تَنْزِلُونَ وَتُقِيمُونَ فِيهِ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَحَفْصٌ بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ لَا إِقَامَةَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: عَنِ الْقِتَالِ إِلَى مَسَاكِنِكُمْ، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلَمَةَ، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، أَيْ خَالِيَةٌ ضَائِعَةٌ، وَهُوَ مِمَّا يَلِي العدو ونخشى عَلَيْهَا السُّرَّاقَ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ «عَوِرَةٌ» بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ قَصِيرَةَ الْجُدْرَانِ يَسْهُلُ دُخُولُ السُّرَّاقِ إليها [٣]، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً، أَيْ مَا يُرِيدُونَ إِلَّا الْفِرَارَ.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ أَيْ لَوْ دخل عَلَيْهِمُ الْمَدِينَةَ [يَعْنِي] [٤] هَؤُلَاءِ الْجُيُوشَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ قِتَالَهُمْ وَهُمُ الْأَحْزَابُ، مِنْ أَقْطارِها، جَوَانِبِهَا وَنَوَاحِيهَا جَمْعُ قُطْرٍ، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ، أَيْ الشِّرْكَ، لَآتَوْها، لَأَعْطَوْهَا، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ لَأَتَوْهَا مَقْصُورًا، أَيْ لَجَاؤُوهَا وَفَعَلُوهَا وَرَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَما تَلَبَّثُوا بِها، أَيْ مَا احْتَبَسُوا عَنِ الْفِتْنَةِ، إِلَّا يَسِيراً، وَلَأَسْرَعُوا الْإِجَابَةَ إِلَى الشِّرْكِ طَيِّبَةً بِهِ أَنْفُسُهُمْ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وقال الحسن [٥] : وَمَا أَقَامُوا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ إِعْطَاءِ الْكُفْرِ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَهْلَكُوا.
وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.
- ولتسمية النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمدينة «طابة» شاهد عند مسلم ١٣٨٥ وأبو يعلى ٧٤٤٤ وأحمد ٥/ ٨٩ و٩٤ و٩٦ وابن حبان ٣٧٢٦ من حديث جابر بن سمرة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الله تعالى سمّى المدينة طابة».
- وأخرج البخاري ١٨٧١ ومسلم ١٣٨٢ وأحمد ٢/ ٢٣٧ وابن حبان ٣٧٢٣ من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».
- قال النووي في «شرح صحيح مسلم» ٩/ ١٥٤: إن بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسمونها يثرب، وإنما اسمها المدينة وطابة، وطيبة، ففي هذا كراهة تسميتها يثرب.
وأما تسميتها في القرآن يثرب، فإنما هو حكاية عن قول المنافقين، والذين في قلوبهم مرض اهـ. [.....]
(١) ما بين الحاصرتين في المطبوع «وقال: هي».
(٢) في المطبوع «هذا اللفظ».
(٣) في المطبوع «عليها».
(٤) زيادة عن المخطوط.
(٥) زيد في المطبوع «والفراء».