غزوة الأحزاب أو الخندق وبني قريظة
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ الى ٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)
الإعراب:
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ (١٠) إِذْ: في موضع نصب على البدل من إِذْ في قوله تعالى: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وإِذْ هذه منصوبة ب اذْكُرُوا.
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) يقرأ الظُّنُونَا بإثبات الألف، لأنها فاصلة، وفواصل الآيات تشبه رؤوس الأبيات. ويقرأ بترك الألف على الأصل.
وَإِذْ يَقُولُ وإِذْ قالَتْ (١٢، ١٣) : إِذْ فيهما منصوب بفعل مقدر، أي اذكر.
وَيَسْتَأْذِنُ (١٣) الواو: واو الحال، والجملة بعدها في موضع نصب على الحال من الطائفة المرفوعة ب قالَتْ. وقال بعضهم: تم الكلام عند قوله: فَارْجِعُوا وليست الواو واو الحال.
وإِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ذات عورة، فحذف المضاف.
عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ، لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ (١٥) عاهَدُوا اللَّهَ: بمنزلة القسم، ولا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ: جوابه.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ (١٩) : إما منصوب على الحال من واو يَأْتُونَ أو منصوب على الذم.
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ، كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ (١٩) : يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في رَأَيْتَهُمْ من رؤية العين.
وتَدُورُ أَعْيُنُهُمْ: إما حال من واو يَنْظُرُونَ أو حال بعد حال. وكَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تقديره: تدور أعينهم دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت، فحذف المصدر وهو «دورانا» وما أضيفت الكاف إليه وهو دوران، وما أضيف «دوران» إليه وهو «عين» وأقيم «الذي» مقام «عين» وإنما وجب هذا التقدير ليستقيم معنى الكلام لأن تشبيه الدوران بالذي يغشى عليه تشبيه العرض بالجسم، والأعراض لا تشبه بالأجسام، ومِنَ الْمَوْتِ أي من حذر الموت.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ (١٩) : أَشِحَّةً: منصوب على الحال من واو سَلَقُوكُمْ وهو عامله.
بادُونَ فِي الْأَعْرابِ (٢٠) : الجار والمجرور إما مرفوع على أنه خبر بعد خبر، أي كائنون في جملة الأعراب، وإما منصوب على الحال من ضمير بادُونَ.
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ (٢١) : الجار والمجرور بدل من لكم أو في موضع رفع لأنه صفة بعد صفة ل أُسْوَةٌ أي أسوة حسنة كائنة لمن كان. ولا يتعلق ب أُسْوَةٌ إذا جعل مصدرا بمعنى التأسي لأنها وصفت والمصدر إذا وصف لم يعمل.
وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً (٢٢) أي ما زادتهم الرؤية إلا إيمانا، وإنما جعل الفعل زادَهُمْ بالتذكير لأن الرؤية بمعنى النظر.
ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (٢٣) : ما هنا: مصدرية، في موضع نصب ب صَدَقُوا أي صدقوا الله في العهد، أي وفّوا به.
البلاغة:
مِنْ فَوْقِكُمْ وأَسْفَلَ مِنْكُمْ بينهما طباق.
تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ مبالغة في التمثيل، صور القلوب في خفقانها واضطرابها، كأنها وصلت إلى الحلقوم.
لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ كناية عن الفرار من الزحف.
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ استعارة مكنية، شبه اللسان بالسيف المصلت، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق أي الضرب، بطريق هذه الاستعارة، وحِدادٍ ترشيح.
مَسْطُوراً بَصِيراً غُرُوراً فِراراً يَسِيراً كَثِيراً توافق الفواصل في الحرف الأخير.
هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إطناب بتكرار اسم الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم للتعظيم والتشريف.
قَضى نَحْبَهُ استعارة، أستعير النحب وهو النّذر للموت نهاية كل حي كأنه نذر لازم في رقبة كل إنسان.
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قوله: إِنْ شاءَ اعتراض للدلالة على أن العذاب أو الرحمة بمشيئة الله تعالى.
المفردات اللغوية:
إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب وهم قريش بقيادة أبي سفيان، وغطفان بقيادة عيينة بن حصن، وبنو أسد بإمرة طليحة، وبنو عامر بزعامة عامر بن الطّفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النّضير من اليهود برئاسة حييّ بن أخطب وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة من اليهود أيضا وسيدهم كعب بن أسد، وقد نقض هؤلاء اليهود عهدهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وتواطؤوا مع قريش. وبلغ مجموع الأحزاب عشرة آلاف، أو زهاء اثني عشر ألفا.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً ريح الصبا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الملائكة وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق، وعلى قراءة: يعملون تحزيب المشركين ومحاربتهم بَصِيراً رائيا مطلعا تمام الاطلاع مِنْ فَوْقِكُمْ أي من أعلى الوادي، من جهة المشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من جهة المغرب زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها، فلم تلتفت إلا إلى عدوها حيرة ودهشة وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ المراد أنها فزعت فزعا شديدا، والحناجر:
جمع حنجرة: وهي منتهى الحلقوم وهو مدخل الطعام والشراب والتنفس، وتصوير ذلك: أن الرئة تنتفخ من شدة الرعب، فترتفع بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي تظنون مختلف الظنون من نصر ويأس، فالمؤمنون المخلصون خافوا الزلل وضعف الاحتمال، والمنافقون
ومرضى القلوب كذبوا بوعد الله، وتشككوا فيه، وأعلنوا بطلانه.
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ اختبروا وامتحنوا، فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً اضطربوا كثيرا من شدة الفزع وكثرة العدو وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد، وهم قوم كان المنافقون يستميلونهم بالإغراءات وزرع الشّبه في قلوبهم، لحداثة عهدهم بالإسلام ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بالنصر أو الظفر وإعلاء دينه إِلَّا غُرُوراً إلا وعدا باطلا لا حقيقة له، أو خداعا.
طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ أهل المدينة ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل لا مُقامَ لَكُمْ أي لا إقامة ولا مكانة لكم هاهنا فَارْجِعُوا إلى منازلكم في المدينة هاربين، وذلك بعد أن خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى «سلع» : جبل خارج المدينة للقتال وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ في الرجوع يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ قاصية غير حصينة، يخشى عليها الاقتحام من الأعداء وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي ما يريدون إلا هروبا من القتال مع المؤمنين.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة مِنْ أَقْطارِها نواحيها وجوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ طلب منهم الداخلون الشرك والردة، ومقاتلة المسلمين لَآتَوْها لأعطوها وفعلوها، وقرئ:
لأتوها أي لجاؤوها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ما أخّروها، أو ما أخروا إعطاء الفتنة إلا لوقت يسير لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ المراد لا ينهزمون ولا يفرون من الزحف. والأدبار: جمع دبر وهو ما قابل القبل، ويطلق على الظهر وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به، ومجازي عليه. وهم بنو حارثة عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله.
وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إذا فررتم لا تتمتعون في الدنيا بعد فراركم إِلَّا قَلِيلًا أي لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا أو زمانا قليلا يَعْصِمُكُمْ يمنعكم أو يجيركم إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً هلاكا وهزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً فيه محذوف أي: أو يصيبكم بسوء إن أراد الله بكم خيرا، فقد يكون المصاب خيرا مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره وَلِيًّا مواليا ينفعهم وَلا نَصِيراً ناصرا يدفع الضر عنهم.
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المثبّطين منكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم المنافقون وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من ساكني المدينة هَلُمَّ إِلَيْنا تعالوا، وأقبلوا إلينا، أو قرّبوا أنفسكم إلينا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يأتون الحرب والقتال إلا إتيانا أو زمانا قليلا، رياء وسمعة أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء عليكم بما ينفعكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله، جمع شحيح عَلَى الْخَيْرِ حريصين على مال الغنائم، يطلبونها تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ تدير أعينهم أحداقهم كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي كنظر أو دوران عين المغشي عليه من سكرات الموت خوفا فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ زالت حالة الخوف وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ آذوكم بالكلام ورموكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي ألسنة ذربة سليطة قاطعة
كالحديد يطلبون الغنيمة لَمْ يُؤْمِنُوا حقيقة فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أبطل ثمرة أعمالهم وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي وكان ذلك الإحباط هينا سهلا على إرادة الله، فإذا أراد شيئا كان، ولم يمنعه عنه أحد. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ من الكفار لَمْ يَذْهَبُوا إلى مكة، لخوفهم منهم، المعنى: يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا، ففروا إلى داخل المدينة وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة أخرى يَوَدُّوا يتمنوا بادُونَ فِي الْأَعْرابِ كائنون معهم في البادية يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أخباركم مع الكفار، وما جرى عليكم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي ما كان قتالهم إلا قتالا ظاهريا قليلا، رياء وخوفا من التعيير.
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قدوة صالحة، يتأسى به، كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يرجو ثواب الله أو لقاءه، ونعيم الآخرة وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً قرن بالرجاء كثرة ذكر الله المؤدية إلى ملازمة الطاعة، فإن المؤتسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم من كان كذلك، بخلاف غيره.
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ من الكفار الذين تجمعوا لحرب النبي صلّى الله عليه وسلّم والقضاء عليه قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الابتلاء والنصر، بقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ.. [البقرة ٢/ ٢١٤]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر» «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم».
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في الوعد والابتلاء وَما زادَهُمْ ذلك الذي رأوه من الخطب أو البلاء إِلَّا إِيماناً تصديقا بوعد الله وَتَسْلِيماً لأمره ومقاديره.
صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمقاتلة لإعلاء الدين قَضى نَحْبَهُ مات أو قتل في سبيل الله شهيدا، ووفّى نذره، كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، والنحب: النذر، فجعل كناية عن الموت مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة، كعثمان وطلحة وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه، بخلاف حال المنافقين لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ تعليل للمنطوق وهم المؤمنون المخلصون، وللمعرّض به وهم المنافقون، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء، كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى، لكن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم، والمراد به التوفيق للتوبة غَفُوراً رَحِيماً لمن تاب.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الأحزاب بِغَيْظِهِمْ متغيظين لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إيجاد ما يريد عَزِيزاً غالبا على كل شيء ظاهَرُوهُمْ ظاهروا الأحزاب أي عاونوهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني من بني قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم، جمع صيصة وهي كل ما يتحصن به
وَقَذَفَ ألقى الرُّعْبَ الخوف الشديد فَرِيقاً تَقْتُلُونَ منهم وهم المقاتلة وَتَأْسِرُونَ فريقا منهم وهم الذراري: أي النساء والأطفال. وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد، وهي خيبر، أخذت بعد قريظة.
سبب النزول: نزول الآية (٩) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ:
أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعودا، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخاف على ذرارينا، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلّى الله عليه وسلّم إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون، إذ استقبلنا النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا رجلا حتى أتى علي، فقال:
ائتني بخبر القوم، فجئت، فإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبرا، فو الله، إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم، وهم يقولون: الرحيل الرحيل، فجئت، فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ الآية.
نزول الآية (١٢) :
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عمرو المزني قال: خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخندق عام الأحزاب، فأخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المعول، فضربها ضربة، صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة «١»، فكبّر، وكبّر المسلمون، ثم ضربها الثانية، فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبّر
وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة، فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبّر، وكبّر المسلمون، فسئل عن ذلك، فقال: ضربت الأولى، فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم، ثم ضربت الثانية، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فأضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟
ويحدّثكم، يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق «١»، لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً.
نزول الآية (٢٣) :
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ:
أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فكبر عليه، فقال: أول مشهد قد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليرينّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بالتقوى بحيث لا يبقى في نفس المؤمن خوف من أحد، ذكر مثالا واقعيا من وقعة الأحزاب، حيث تجمع المشركون من قريش ومن عاونوهم من اليهود والأحباش عشرة آلاف حول المدينة بقصد القضاء على
النبي وصحبه، فدفع الله القوم عن المؤمنين من غير قتال وآمنهم من الخوف، مما يدل على أنه لا يخاف العبد غير ربه، فإنه القادر على كل ممكن، الكاف أمره.
أضواء من السيرة على غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق:
في شوال من السنة الخامسة للهجرة اجتمع حول المدينة عشرة آلاف، أو اثنا عشر ألفا، أو خمسة عشر ألفا من الكفار الوثنيين وأهل الكتاب، للقضاء على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المشركون من قريش والأحباش في أربعة آلاف بقيادة أبي سفيان، وبني أسد بقيادة طليحة، وغطفان في ستة آلاف بزعامة عيينة بن حصن، وبني عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وسليم يقودهم أبو الأعود، وكان يهود بني النضير برئاسة حيي بن أخطب وابني أبي الحقيق، ويهود بني قريظة وسيدهم كعب بن أسد الذي كان بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم عهد، فنبذه بسعي حيي بن أخطب.
وكان سبب الوقعة اليهود، فقد خرج نفر من بني النضير وبني قريظة، فقدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاؤوا غطفان وقيسا وعيلان وبني مرة وأشجع، فدعوهم إلى الحرب في المدينة، فتوافق المعسكران: الوثني والكتابي على تكوين جيش موحد بقيادة أبي سفيان، فنزلوا أمام المدينة.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون في ثلاثة آلاف، حتى نزلوا بظهر سلع.
ولما سمع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمسير فئات الأحزاب، أمر بحفر خندق حول المدينة بمشورة سلمان الفارسي، وعمل في حفره الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون، في السهل الواقع شمال غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدو، وأما الجوانب الأخرى فكانت محصنة بالجبال. وبلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة، وعرضه تسعة فأكثر.
فلما رأى المشركون وأحزابهم الخندق قالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، فوقعت مصادمات، وحاول بعض المشركين اقتحام الخندق، فرمي بالحجارة، واقتحمه بعضهم بفرسه فهلك أو قتل، منهم الفارس المشهور عمرو بن ودّ العامري الذي تبارز مع علي رضي الله عنه، فقتله، وفرّ صاحباه عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، ومن فوارسهم نوفل بن مغيرة. واستشهد سعد بن معاذ رضي الله عنه في غزوة بني قريظة.
ثم وقعت مكيدة محكمة بين الأحزاب، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في خوف وشدة، إذ جاءه نعيم بن مسعود الغطفاني، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة».
فأتى بني قريظة، وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم أتى قريشا وغطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد، فيضرب أعناقهم، ويتّحدون معه على قتالكم لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا.
ولما أراد أبو سفيان وقادة غطفان خوض معركة حاسمة مع المسلمين، تباطا اليهود، وطلبوا منهم رهائن من رجالهم، فامتنعوا وصدّقوا حديث نعيم بن مسعود، وتحقق اليهود من صدق حديث نعيم أيضا، فتخاذل اليهود والعرب، وتفرقت الكلمة.
ودب الضعف في الأحزاب، وزاد من قلقهم واضطرابهم أن أرسل الله عليهم
ريحا شديدة البرد في ليلة شاتية، فأكفأت قدورهم، وطرحت آنيتهم.
فرجع أبو سفيان مع قريش إلى بلادهم، وتبعته غطفان، وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان حتى يأتي بخبرهم، ومكث النبي صلّى الله عليه وسلّم قائما يصلي، ودعا لحذيفة بالسلامة والحفظ حتى يعود، كما دعا رافعا يديه ويقول:
«يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي» فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك، فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي.
وصدق الله إذ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٩] ويقول: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب ٣٣/ ٢٥].
وانتهت الحرب بين المسلمين والمشركين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم».
واستشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة، وقتل من المشركين أربعة.
التفسير والبيان:
تضمنت الآيات في مجال التذكير بنعمة الله وإحسانه إلى عباده المؤمنين بنصرهم في غزوة الخندق موضوعات خمسة: هي وصف الغزوة (الآيات:
٩- ١١) وموقف المنافقين واليهود من المسلمين (الآيات: ١٢- ٢١) وموقف المؤمنين في التضحية والفداء (الآيات: ٢٢- ٢٤) ونصر المؤمنين وهزيمة الكافرين (الآية: ٢٥) وتأديب يهود بني قريظة (الآيتان: ٢٦- ٢٧).
أولا- وصف الغزوة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أيها المؤمنون بالله ورسوله اذكروا بالشكر والحمد نعم الله التي أنعم بها عليكم حين وقعتم في حصار جنود وحشود هائلة من قريش وغطفان واليهود الذين جاؤوا لإبادتكم واستئصال شوكتكم وإنهاء وجودكم، فبعثنا عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية، وملائكة لم تروها زلزلتهم وألقت الرعب في قلوبهم، فأكفأت القدور، وقلبت البيوت والأواني، حتى بادر رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان، النجاء النجاء، وقال طليحة بن خويلد الأسدي: إن محمدا قد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، وقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع (الخيول) والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله، وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
وكان الله مطلعا عليما على جميع أعمالكم من حفر الخندق ومقاساة الشدائد، والاستعداد للقتال، والتحرز من العدو، وهو يجازيكم عليها، ولا يبخس منها شيئا.
ثم ذكّرهم بإحكام حصار الأحزاب عليهم، فقال:
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي واذكروا حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق، ومن أسفل الوادي من جهة المغرب، الأولون من قريش والأحباش وبني كنانة وأهل تهامة، والآخرون من بني قريظة، كما ذكر حذيفة. وقيل: الأولون من أهل نجد وبني أسد
وبني نصر، والآخرون: من قريش، وأما يهود بني قريظة فمن وجه الخندق.
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي وإذ مالت الأبصار عن سننها، فلم تلتفت إلى العدو لكثرته، وبلغت القلوب الحناجر كناية عن شدة الخوف والفزع، وتظنون مختلف الظنون، فمنكم مؤمن ثابت الإيمان لا يتزحزح عن موقفه، واثق بنصر الله وبوعده، ومنكم منافق مريض الاعتقاد، ظن أن محمدا وأصحابه يستأصلون، وينتصر المشركون، ويسودون المدينة. قال الحسن البصري: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ، وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي حينئذ اختبر الله المؤمنين، فظهر المخلص من المنافق، وحركوا واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وتهديد العدو، فمن ثبت منهم هم المؤمنون حقا، ومن استبد القلق بهم هم المنافقون.
والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له، بل لحكمة أخرى، هي أن الله تعالى عالم بما هم عليه، لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الأنبياء والملائكة.
ثانيا- موقف اليهود والمنافقين من المسلمين:
ثم أعلن الله تعالى موقف المنافقين ومؤيديهم، فقال:
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً أي واذكروا حين قال المنافقون الذين أسلموا في الظاهر ولم تؤمن قلوبهم، وضعفاء العقيدة لحداثة عهدهم بالإسلام: ما وعدنا الله ورسوله من النصر على العدو إلا وعدا باطلا لا وجود ولا حقيقة له. والقائل: جماعة من اليهود والمنافقين نحو من سبعين رجلا، مثل معتّب بن قشير وطعمة بن أبيرق، فقال معتب حين رأى الأحزاب: يعدنا محمد فتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن
يتبرّز فرقا (خوفا) ما هذا إلا وعد غرور «١». وأما مريض الاعتقاد فتحدث بما توسوس به نفسه لضعف إيمانه، وشدة ما هو فيه من ضيق الحال.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ، لا مُقامَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا أي واذكروا أيضا حين قالت طائفة من المنافقين، وهم أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه، أو عبد الله بن أبيّ وأصحابه: يا أهل المدينة، لا وجه لإقامتكم مع محمد وعسكره، ولا مسوغ لها مع هذه الحال من الذل والهوان، ولا قرار لكم هاهنا ولا مكان تقيمون فيه، فارجعوا إلى بيوتكم ومنازلكم في المدينة، لتسلموا من القتل والفناء. ويثرب: اسم للبقعة التي هي المدينة أو طيبة أو طابة. والطائفة:
تطلق على الواحد فأكثر.
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي وبسبب إشاعة الفتنة وبثّ روح الضعف عزم جماعة من المنافقين على الرجوع وهم بنو حارثة بن الحارث، وطلبوا الإذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم في العودة إلى بيوتهم وترك القتال قائلين: إن بيوتنا سائبة ضائعة ليست بحصينة، أي فيها خلل يخاف منه دخول العدو والسارق ليأخذ المتاع ويفزع النساء والأولاد، فكذبهم الله بقوله: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي ليس فيها خلل أو ثغرة، بل هي حصينة وليست كما يزعمون، وإنما قصدهم الفرار بسبب الخوف، والهرب من الزحف مع جيش المؤمنين الصادقين.
ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف الإيمان ورقّته في قلوبهم وأن ذلك الفرار ليس لحفظ البيوت، فقال:
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً أي ولو دخل الأعداء عليهم من كل جانب من جوانب المدينة، أو
البيوت، ثم طلب منهم الردة والعودة صراحة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، لجاؤوها أو لأعطوها من أنفسهم ولفعلوا ذلك سريعا، ولم يحافظوا على الإيمان ولم يستمسكوا به، وما مكثوا في استجابتهم وعطائهم ما طلب منهم إلا زمنا يسيرا من أدنى خوف وفزع، وهو مقدار ما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو ما تلبثوا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا.
وهذا دليل واضح على ضعف الإيمان في نفوسهم، فلا عجب إذا بادروا إلى التراجع والتسلل من المعركة. وهذه سمة المترددين الجبناء الذين اعتادوا على الهرب من مواقف الصمود ولقاء الشجعان، لذا قال تعالى:
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ، وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي ولقد كان هؤلاء وهم بنو حارثة عاهدوا الله يوم أحد من قبل هذا الخوف ألا يولوا الأدبار، ولا يفرون من الزحف، ثم تابوا وعاهدوا الله ألا يعودوا لمثل ذلك. ثم هددهم تعالى وأوعدهم بقوله: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي إن الله سيسألهم عن ذلك العهد والوفاء به يوم القيامة، ويجازيهم على نقضه وخيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أمر لا بدّ منه. وقوله: مَسْؤُلًا معناه:
مطلوبا مقتضى حتى يوفى به.
ثم بيّن الله تعالى لهم عدم جدوى فعلهم، ووبخهم، فقال:
قُلْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي أخبرهم أيها الرسول أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطوّل أعمارهم، فلن ينفعهم الهرب من لقاء الموت أو القتل في ميدان المعركة، فإن المقدّر كائن لا محالة، وربما كان فرارهم سببا في تعجيل أخذهم غرّة، وإذا ظلوا أحياء ونفعهم الفرار ونجوا من الموت كما يظنون، لم يكن تمتعهم بالتأخير بمتاع الدنيا بعد هربهم وفرارهم إلا تمتيعا قليلا أو زمانا يسيرا:
قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى [النساء ٤/ ٧٧]. قال الربيع بن خيثمة: وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي إن فررتم من الموت أو القتل لا ينفعكم الفرار لأن مجيء الأجل لا بدّ منه.
ثم أبان الله تعالى ما تقدم معرّفا لهم قدرته الكاملة عليهم، فقال:
قُلْ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي وقل لهم أيضا أيها الرسول: لا أحد يستطيع أن يمنعكم من مراد الله بكم، أو دفع السوء عنكم إذا قدره الله عليكم، أو تحقيق النفع والخير إذا أراده لكم. وقوله:
أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً معناه: أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام. وقوله: سُوءاً أي هلاكا، وقوله: رَحْمَةً أي خيرا ونصرا وعافية.
وأكد هذا بقوله:
وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي ولا يجد هؤلاء المنافقون ومؤيدوهم من ضعفاء العقيدة ولا غيرهم مجيرا ولا مغيثا ولا نصيرا ينصرهم أو يشفع لهم.
ثم حذرهم بدوام علمه بالخائنين، فقال:
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ: هَلُمَّ إِلَيْنا قد: هنا للتحقيق وليس للتقليل، والمعنى: إن الله ليعلم علما محيطا شاملا الذين يثبطون المسلمين عن شهود الحرب، تخذيلا ونفاقا، ويعلم القائلين لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وقرّبوا أنفسكم إلينا، واتركوا محمدا والحرب معه. وهلّم: لغة أهل الحجاز، يسوّون فيه بين الواحد والجماعة، وأما تميم فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال، وهلمن يا نساء. والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا، وإنما هو مركب مختلف في
أصل تركيبه، فقيل: هو مركب من ها التي للتنبيه ولم، وهو مذهب البصريين، وقيل: من هل وأم، وهو متعد ولازم، فالمتعدي كقوله: قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الأنعام ٦/ ١٥٠] أي أحضروا شهداءكم، واللازم كقوله: هلم إلينا، وأقبلوا إلينا، وقوله: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ إما المنافقون قالوا للمسلمين:
ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس «١»، وهو هالك ومن معه، فهلم إلينا، وإما يهود بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين: تعالوا إلينا وفارقوا محمدا، فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا. وإما رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لشقيقه في قلب المعركة: هلم إلي، قد تبع بك وبصاحبك، أي قد أحيط بك وبصاحبك.
وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أي ولا يأتي المنافقون القتال إلا زمنا قليلا أو شيئا قليلا إذا اضطروا إليه، خوفا من الموت، كقوله تعالى: ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب ٣٣/ ٢٠].
ثم ذكر الله تعالى صفات أخرى لهم، فقال:
١- أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ هذه صفة البخل، أي بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم، فلا يعاونونكم في الحرب بنفس ولا بمال ولا بمودة وشفقة، وكذا عند قسمة الغنيمة. وأشحة: جمع شحيح على غير القياس، والقياس: أشحاء، مثل خليل وأخلاء. والصواب: أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة المؤمنين.
٢- فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وهذه صفة الجبن والخوف، والبخل شبيه الجبن، فلما ذكر البخل بيّن سببه وهو الجبن، والمعنى: فإذا بدأ حدوث الخوف ببدء المعركة والقتال،
رأيتهم ينظرون إليك أيها النبي في تلك الحالة، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا وضعفا، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال.
٣- فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ وهذه صفة سلاطة اللسان والإيذاء بالكلام والتفاخر الكاذب، والمعنى: فإذا تحقق الأمن غلبوكم باللسان وآذوكم بالكلام، وتفاخروا بأنهم أهل النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون.
وسبب هذه الصفة، كما قال تعالى:
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي وهم مع ذلك ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم قليلو الخير في الحالتين، كثيرو الشر في الوقتين، يبخلون أولا وآخرا، أي أنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة بخلاء، قال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة، يقولون: أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق.
ثم ذكر الله تعالى سبب مرضهم وجميع صفاتهم وهو ضعف الثقة بالله، فقال:
أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي إن أولئك المنافقين هم في الواقع غير مصدقين بالله ورسوله، ولم يؤمنوا حقيقة، وإن أظهروا الإيمان لفظا، فأبطل الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين، وكان ذلك الإحباط سهلا هينا عند الله، بمقتضى عدله وحكمته.
وتساءل الزمخشري بقوله: هل يثبت للمنافق عمل، حتى يرد عليه الإحباط؟ فأجاب: لا، ولكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يواطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجزى عليه، فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل «١».
ثم ذكر الله تعالى أن صفاتهم القبيحة في الجبن والبخل والخوف ملازمة لهم على الدوام، وليست مجرد أمر عارض مؤقت، فقال:
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي يظنون من شدة الخوف والفزع أن أحزاب الكفر من قريش وغطفان وبني قريظة لم يرحلوا ولم ينهزموا، وأن لهم عودة إلى الحصار والحرب فكأنهم عند حضورهم غائبون عن الساحة حيث لا يقاتلون، مع أن الأحزاب رحلوا وانهزموا ولن يعودوا.
وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ، يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي وإن يعد الأحزاب إلى قتالكم، يتمنوا أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة وبين المقاتلين، بل يكونون في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم للشماتة بكم، وانتظار وقوع السوء بكم، وجبنا وخورا في العزائم.
وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي ولو كان هؤلاء المنافقون معكم في ساحة المعركة لما قاتلوا إلا قتالا يسيرا وزمنا قليلا، لاستيلاء الجبن والضعف عليهم.
ثم لفت نظرهم ونظر غيرهم إلى ضرورة التأسي بالقائد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً هذا أمر من الله تعالى بالتأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب وغيره في أقواله وأفعاله وأحواله، وصبره ومصابرته ومجاهدته وانتظار الفرج من ربه عز وجل، والمعنى: لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة صالحة ومثل أعلى يحتذي به، فهلا اقتديتم وتأسيتم بشمائله صلّى الله عليه وسلّم، فهو مثل أعلى في الشجاعة والإقدام والصبر والمجالدة، إذا كنتم تريدون ثواب الله وفضله، وتخشون الله وحسابه،
وتذكرونه ذكرا كثيرا في الليل والنهار، حبا به وتعظيما له، وخوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه وجزائه، فإن ذكره دافع إلى طاعته، والتأسي برسوله.
وهذا عتاب للمتخلفين، وإرشاد للناس جميعا أن يتأسوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السراء والضراء وحين البأس ولقاء الشجعان ونزال الأبطال.
ثالثا- موقف المؤمنين:
ثم بعد بيان حال المنافقين أبان الله تعالى حال المؤمنين عند لقاء الأعداء، فقال:
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً أي ولما شاهد المؤمنون المصدقون بموعود الله لهم، المخلصون في القول والعمل الأحزاب المتجمعة حول المدينة قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار بمجابهة الأعداء ثم النصر القريب، وصدق الله ورسوله الوعد بالنصر، وما زادهم تجمع الأعداء وتلك الحال من الشدة والضيق إلا إيمانا بالله، وتصديقا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتسليما لقضائه وقدره وانقيادا لأوامره وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، واعتقادا جازما أن النصر من عند الله تعالى بعد أن يتخذ العباد الأسباب، ويستعدوا للحرب، ويقاتلوا فعلا لأن الجهاد تكليف من الله لعباده، وتعطيل التكليف معصية، ومجرد الاعتماد على قدرة الله وإمداده بالعون والنصر دون عمل من عباده: سوء فهم وجهل وتمنيات شيطانية خادعة.
والتحذير من هذه المفاهيم المخطئة متكرر في القرآن، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة ٢/ ٢١٤] وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٢].
وعن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا»
أي في آخر تسع ليال أو عشر.
وقال صلّى الله عليه وسلّم أيضا: «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم».
وفي الآية دلالة على وجوب الثقة بوعد الله ورسوله، وقوله تعالى:
وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، كما قال جمهور الأئمة: إنه يزيد وينقص.
وبعد بيان حال المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف الله تعالى المؤمنين الذين استمروا على العهد والميثاق، فوفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله أنهم لا يفارقون نبيه إلا بالموت، فقال:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أي وهناك في مقابلة المنافقين جماعة من المؤمنين المخلصين الصادقين، صدقوا العهد مع الله، ووفوا بما عاهدوا عليه من الصبر في حال الشدة والبأس، فمنهم من انتهى أجله واستشهد كيوم بدر وأحد، ومنهم من ينتظر قضاء الله والشهادة وفاء بالعهد، وما بدلوا عهدهم وما غيّروه، بخلاف المنافقين الذين قالوا: لا نولي الأدبار، فبدلوا قولهم وولوا أدبارهم.
وقوله: قَضى نَحْبَهُ معناه قاتل فوفى بنذره، والنحب: النذر.
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.
وروى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: «غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فشقّ عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليرينّ الله عز وجل
ما أصنع، قال أنس: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه:
يا أبا عمرو، أين؟ واها لريح الجنة، إني لأجده دون أحد، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فنزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية.
وذكر في الكشاف: نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير وغيرهم رضي الله عنهم.
ثم ذكر تعالى علة ابتلاء المؤمنين وغيرهم وإيلامهم في الحرب، فقال:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي إنما يختبر الله عباده بالخوف ولقاء الأعداء ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر كل واحد منهما بالفعل، ويكافئ الصادقين في إيمانهم بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه، وصدق ما وعدهم في الدنيا والآخرة كما صدقوا وعودهم، ويعذب المنافقين الذين كذبوا ونقضوا العهد وأخلفوا أوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه.
والكل تحت مشيئة الله في الدنيا، إن شاء بقوا على ما هم عليه حتى يلقوه، فيعذبهم، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى الإقلاع عن النفاق إلى الإيمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان، أي إن الهداية إلى الإيمان والتوبة بمراد الله ومشيئته.
ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال:
إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً حيث ستر ذنوبهم، ورحمهم ورزقهم الإيمان ووفقهم إلى التوبة، ولا يعاقبهم على ما مضى بعد التوبة. وهذا حث على التوبة والإيمان قبل فوات الأوان.
ونظير الآية كثير، منها: قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣١] وقوله عز وجل: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران ٣/ ١٧٩].
رابعا- نهاية المعركة أو الإجلاء:
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً أي إن الله تعالى أجلى الأحزاب عن المدينة، وردهم خائبين خاسرين مع غيظهم، لم يشفوا صدرا، ولم يحققوا أمرا، ولم ينالوا أي خير من غنيمة أو أسر أو نصر حاسم، بما أرسل عليهم من الريح الباردة والجنود الإلهية، فتفرقت جموعهم، وتشتت شملهم، ولم يحققوا خيرا لأنفسهم، لا في الدنيا من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة من الآثام في إعلان عداوتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومبارزته، وهمهم بقتله، واستئصال زمرته وجيشه، ومن همّ بشيء، وبدأ بتنفيذ همه بالفعل، فهو في الحقيقة كالفاعل.
وكفى الله المؤمنين القتال، أي لم يحوجهم إلى قتال ومبارزة حتى يجلوا عن بلادهم، بل كفى الله وحده شرهم، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولهذا
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الشيخان- يقول: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».
وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأحزاب، فقال: اللهم منزّل الكتاب، سريع الحساب،
اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم».
وقال محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم»
فلم تغز قريش بعد ذلك، بل غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، حتى فتح الله تعالى مكة.
وكان الله قويا عزيزا، أي غير محتاج إلى قتالهم، قادرا على استئصال الكفار وإذلالهم، ردهم بحوله وقوته خائبين، لم ينالوا خيرا، وأعز الله الإسلام وأهله.
خامسا- حصار بني قريظة:
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ أي وأنزل الله يهود بني قريظة الذين هم من أهل الكتاب والذين عاونوا الأحزاب من حصونهم وقلاعهم.
وذلك لأنهم بمسعى حيي بن أخطب النضيري نقضوا عهدهم الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ لم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعزّ الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه، فقال له كعب: بل والله أتيتني بذل الدهر، ويحك يا حيي، إنك مشؤوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب (أي يخادعه) حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن، فيكون أسوتهم.
فلما أيد الله تعالى رسوله والمسلمين، وكبت أعداءهم، وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجعوا إلى المدينة،
أرسل الله جبريل عليه السلام، فأوحى إلى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائلا: «إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة» فنهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة»
فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا تعجيل المسير، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنّف واحدا من الفريقين.
وتبعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد استخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نازلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة
، فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية.
فلما جاء سعد
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن هؤلاء- وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت».
فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: «نعم» قال: وعلى من هاهنا؟ وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا وإكراما وإعظاما، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم».
فقال رضي الله عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم وأموالهم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة
أرقعة» أي سبع سموات. أو «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله».
ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأخاديد، فخدّت في الأرض، وجيء بهم مكتّفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبع مائة إلى الثمان مائة، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء
، وأموالهم، لذا قال تعالى:
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً أي وألقى في نفوسهم الخوف الشديد، لممالأتهم المشركين على حرب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإخافتهم المسلمين، وقصدهم قتلهم، فانعكس الحال عليهم، وأسلموا أنفسهم للقتل، وأولادهم ونساءهم للسبي، فريقا تقتلون، وهم الرجال المقاتلة، وتأسرون فريقا، وهم النساء والصبيان.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي جعل الله لكم أراضيهم المزروعة ومنازلهم المعمورة وأموالهم المدخرة، وأرضا أخرى لم تطأها أقدامكم بعد وهي التي ستفتح في المستقبل، بعد بني قريظة، مثل خيبر ومكة وبلاد فارس والروم.
وكان الله صاحب القدرة المطلقة على كل شيء، فهو كما ورّثكم أرض بني قريظة، ونصركم عليهم، قادر على أن يورثكم غير ذلك، وينصركم على أقوام آخرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت هذه الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية:
١- إن النصر الحاسم للمسلمين على المشركين في غزوة الخندق والأحزاب، وعلى يهود بني قريظة ناقضي العهد نعمة عظمي تستوجب الشكر والحمد لله تعالى لأنه نصر دبره الله عز وجل بإرسال الريح والملائكة، وقد صدقت فيه
عزيمة المؤمنين على خوض المعركة، والدفاع عن مدينتهم عاصمة الإسلام.
٢- إن السلطان يشاور أصحابه وخاصته في أمر القتال لأنه لما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باجتماع الأحزاب وخروجهم إلى المدينة، شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، فرضي رأيه، وقال المهاجرون يومئذ: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلمان منا آل البيت».
وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يومئذ حرّ، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين.
وفي هذا الخبر أيضا وجوب التحصن من العدوّ بما أمكن من الأسباب، وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ، فالمسلمون يد على من سواهم.
أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عنّي الغبار جلد بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول:
اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا... وثبّت الأقدام إن لاقينا
٣- دلت أخبار السيرة السالفة الذكر ورواية النسائي عن البراء وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب صخرة أثناء حفر الخندق ضربات ثلاثا، أضاءت له الضربة الأولى مدائن كسرى وما حولها، وأنارت له الثانية مدائن قيصر وما حولها، وأبدت له الثالثة مدائن الحبشة وما حولها، ورأى سلمان بعينه ذلك، وتلك معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشّر بها بفتح هذه البلاد،
وقال عند ذلك فيما رواه مالك: «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم».
٤- أعلن بنو قريظة بتواطئهم مع الأحزاب من قريش وغطفان نقضهم العهد مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم،
فقال لهم الرسول: «نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته»
وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى أموالهم وذراريهم. وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة.
٥- كان تجمع الأحزاب على المدينة وحصارها مثار قلق واضطراب، ومبعث بلاء وشدة خوف، فانتابتهم الظنون، وأظهر المنافقون كثيرا مما يسرّون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها، وممن قال ذلك: أوس بن قيظي. ومنهم من قال: يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال ذلك: معتّب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف.
فأقام المشركون في حصارهم المدينة بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، لم يكن بينهم وبين المسلمين إلا الرمي بالنّبل والحصى،
فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه اشتد على المسلمين البلاء، بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عمرو المرّي، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم. وكان ذلك مراوضة ولم تكن عقدا. فلما وافقا استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وقال: «أنتم وذاك».
وقال لعيينة والحارث: «انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف».
وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة، فمحاها.
٦- اختراق الخندق: اخترق فوارس من قريش الخندق، منهم عمرو بن ودّ العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهريّ، حتى صاروا بين الخندق وبين سلع،
وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثّغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، فنادى عمرو: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلّتين إلا أخذت إحداهما؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال:
لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله، ما أحبّ أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له علي: أنا والله أحبّ أن أقتلك، فحمي عمرو ونزل عن فرسه، فعقره، وصار نحو علي، فتنازلا وتجاولا، حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي، اقتحموا بخيلهم الثّغرة منهزمين هاربين.
ورمي يومئذ سعد بن معاذ، فقطع منه الأكحل «١»، ومات شهيدا في غزوة بني قريظة، وهو الذي
قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اهتز لموته عرش الرحمن»
يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه، واهتزوا له.
٧- مشروعية الخدعة في الحرب، لما فعل نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي الذي استطاع بدهائه وحيلته بذر بذور الفرقة بين العرب وبين اليهود، ونجح في خدعته، كما تقدم بيانه.
٨- الاجتهاد جائز، سواء أصاب المجتهد أو أخطأ، فقد أقرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كلّا
من الفريقين: الذي صلى العصر في الطريق إلى بني قريظة، والذي أخّر الصلاة حتى فات وقتها، عملا
بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»
فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن فاتنا الوقت، فما عنف واحدا من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين.
٩-
قسم صلّى الله عليه وسلّم أموال بني قريظة، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهما
، قيل: وهي أول غنيمة قسّم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس. وفي قول آخر: إن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش. ووفّق ابن عبد البر بين القولين: أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية [الأنفال ٨/ ٤١]. وكان عبد الله بن جحش قد خمّس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله، وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه.
١٠- أرسل الله على الأحزاب ريح الصّبا يوم الخندق، حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم، وأنزل الملائكة لتفريق الجموع، ولم تقاتل يومئذ،
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والشيخان: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور».
وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المسلمون قريبا منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولا خبر عندهم بها.
قال المفسرون: بعث الله تعالى الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرّعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيّد كل خباء يقول: يا بني فلان هلمّ إلي، فإذا اجتمعوا قال لهم: النّجاء النّجاء، لما بعث الله تعالى عليهم من الرّعب.
١١- لن يمنع حذر من قدر، فمن حضر أجله، مات أو قتل، ولا ينفعه الفرار، ويكون تمتعه في الدنيا بعد الفرار إلى انقضاء الأجل زمنا قليلا، وكل ما هو آت فقريب.
١٢- للمنافقين خصال اجتماعية وشخصية قبيحة ومذمومة، فهم بخلاء على المسلمين فيما يحقق المصلحة العامة، بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم، جبناء يخافون من لقاء الشجعان، سليطو اللسان يؤذون غيرهم بالكلام يتفاخرون بما هو كذب وزور، والحقيقة أنهم كفرة، لم يؤمنوا بقلوبهم، وإن كان ظاهرهم الإسلام، لوصف الله عز وجل لهم بالكفر في قوله: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا وهم كغيرهم من الكفار حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، فلا ثواب لهم إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها، وإحباط أعمالهم على الله هيّن يسير.
ولجبنهم يظنون الأحزاب لم ينصرفوا، وكانوا قد انصرفوا، وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال، يتمنوا أن يكونوا مع أعراب البادية، حذرا من القتل.
وانتظارا لإحاطة السوء والهلاك بالمسلمين، يتساءلون ويتحدثون: أما هلك محمد وأصحابه! أما غلب أبو سفيان وأحزابه! ولو كانوا في ميدان المعركة ما قاتلوا إلا رياء وسمعة.
١٣- قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الآية عتاب للمتخلفين عن القتال، معناه: كان لكم قدوة في النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق، والتأسي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر، ويرجو لقاء الله بإيمانه، ويصدّق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال، ويذكر الله ذكرا كثيرا، خوفا من عقابه، ورجاء لثوابه.
وهل التأسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الإيجاب أو الاستحباب! قولان:
أحدهما- على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب.
الثاني- على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب.
قال القرطبي: ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
١٤- موقف المؤمنين نقيض موقف المنافقين، فهم مصدقون واثقون بوعد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولم تزدهم المحنة والابتلاء والنظر إلى الأحزاب إلا إيمانا بالله وتسليما للقضاء.
١٥- التجسس على الأعداء أمر جائز شرعا،
فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان بأن يتعرف أخبار الأحزاب وانصرافهم عن المدينة، قائلا له: «انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم، وتأتيني بخبرهم، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تردّه إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني».
والدعاء لله تعالى مطلوب في أي وقت ولأي حاجة، وبخاصة وقت الشدة،
فقد انطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده يقول: «يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّي وغمّي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي».
فنزل جبريل وقال: «إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك» فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول:
«شكرا شكرا كما رحمتني، ورحمت أصحابي».
وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا فبشر أصحابه بذلك.
١٦- تتلاحق مواكب الشهداء وتتوالى على درب الجهاد في سبيل الله، فمنهم من يستشهد في معركة، ومنهم من ينتظر أجله في معركة أخرى، وهذا أمارة الخير، ودليل على استدامة الكفاح والإخلاص جيلا بعد جيل.