آيات من القرآن الكريم

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ۩
ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ

والاتصال قائم كذلك بين هذه الآيات وسابقاتها اتصال تعقيب وإنذار.
تعليق على آية وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها
وقد توهم الآية الثانية أن الله قد حتّم على أهل النار من الأزل أن يحرموا من التوفيق والهدى ليملأ بهم النار. وذكر هذا بعض المفسرين والكلاميين في صدد القضاء والقدر «١». ولكن الآية الثالثة التي تنسب الكفر والنسيان لأصحابه وتجعل النار جزءا عادلا لهم من شأنها أن تزيل الوهم وتجعل الكلام على التحتيم في غير محله هنا وتسوغ القول إن الآية في صدد بيان كون حكمة الله اقتضت أن يترك الناس إلى اختيارهم الذي أودعه فيهم بعد أن بيّن لهم طريق الهدى والضلال حتى تمتلىء جهنّم بأهلها عن بيّنة وعدل والجنة بأهلها عن بينة وعدل وأن لا يجبر الناس على الهدى إجبارا. ولعل في الآيات التالية ما يؤيد هذا التوجيه الذي أكّدته آيات كثيرة سبق تفسيرها والتعليق عليها والذي هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس وترتيب الجزاء الأخروي حسب أعمال الناس في الدنيا.
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٥ الى ١٧]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)
. (١) تتجافى: تتباعد.
في الآيات إشارة إلى صفات المؤمنين ومصيرهم: فهم الذين إذا ذكّروا بآيات الله خرّوا سجدا له إعلانا لإيمانهم به وخضوعهم له وحده وسبحوا بحمده

(١) انظر تفسير الآية في الكشاف المذيّل بتعليقات ابن المنير، وانظر تفسيرها في تفسير النسفي.

صفحة رقم 348

على ما أولاهم من نعم وقدّسوه ونزّهوه ولم يستكبروا عن عبادته. وهم الذين يهجرون النوم والراحة ويقضون أوقاتهم في عبادة الله وحده مستشعرين بالخوف منه وراجين الثواب منه. وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في سبل البرّ المتنوعة.
فهؤلاء لا يعلم إلّا الله ما هيّىء لهم من عظيم المكافاة التي فيها قرّة أعينهم وطمأنينة قلوبهم جزاء ووفاقا على ما قدموه من صالح الأعمال.
وواضح أن الآيات قد أعقبت الآيات السابقة في صدد المقابلة بين مصائر الكفار والمؤمنين وأن الاتصال بينها وبين سابقاتها.
تعليقات على آية إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وما بعدها
ولعل الآيات جاءت بالأسلوب الذي جاءت به كردّ على ما حكته الآيات السابقة من إعلان الكفار يوم القيامة يقينهم بالله واتعاظهم. فالإيمان في الآخرة والندم على ما فات لن يجديا نفعا. وإنما المجدي هو الإيمان والعمل الصالح في الدنيا. وفي هذا ما فيه من التلقين المستمر المدى.
والإمعان في الآيات فحوى وروحا يزيل الوهم الذي قد يرد في صدد الآية الثانية من الآيات السابقة لها كما نبّهنا عليه. فكل ما وصف به المؤمنون قد نسب فعله إليهم وصدوره عنهم باختيارهم الذي أودعه الله فيهم.
ومع إطلاق الآيات الذي يجعلها مستمد إلهام وتلقين وتنويه وغبطة مستمر لكل مؤمن في كل وقت فإن فيها على ما هو المتبادر صورة قوية للسابقين الأولين من المؤمنين في مكة من قيام في الليل وتقديس وتسبيح دائمين لله عزّ وجلّ وخوف منه وأمل فيه وإنفاق لأموالهم في سبيله رضوان الله عليهم. وهو ما تكررت حكايته عنهم في سور عديدة منها السورة السابقة.
وجملة فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ تتضمن بشرى عظيمة غير محدودة من شأنها أن تثير في نفوس المؤمنين الصالحين أشدّ الغبطة والارتياح

صفحة رقم 349

وتحملهم على مضاعفة جهدهم في نيل رضاء الله في العبادة والتسبيح والذكر والإنفاق. وهو مما استهدفته الجملة فيما هو المتبادر.
ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآيات أحاديث نبويّة عديدة. منها حديث رواه الطبري بطرقه بصيغ عديدة متقاربة عن معاذ بن جبل قال: «إن رسول الله ﷺ قال له ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة. والصدقة تكفر الخطيئة.
وقيام العبد في جوف الليل، وتلا الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ إلى آخرها»
. وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة ومن بله ما أطلعكم عليه اقرأوا إذا شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) » «١». وروى البغوي بطرقه حديث معاذ بن جبل بتفصيل أكثر قال:
«كنت مع رسول الله في سفر فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئا. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت. ثم قال: ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة. والصدقة تطفئ الخطيئة. وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام. وعموده الصلاة. وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبيّ الله، قال: فأخذ بلسانه فقال: اكفف عليك هذا. قال:
فقلت يا نبيّ الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به. قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم»
. وروى بطرقه عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله ﷺ عليكم بقيام الليل فإنه دأب

(١) روى هذا الحديث الشيخان والترمذي أيضا في سياق تفسير الآية. انظر التاج ج ٤ ص ١٨١- ١٨٢.

صفحة رقم 350
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية