
ثم قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ قال مقاتل والكلبي: يعني كفار مكة (١) ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: بالبعث بعد الموت ﴿لَكَافِرُونَ﴾ لا يؤمنون أنه كائن (٢).
قال أبو إسحاق: معناه: لكافرون بلقاء ربهم، تقدمت الباء؛ لأنها متصلة بكافرون، وما اتصل بخبر إنَّ جاز أن يُقدم قَبل اللام، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر، كقولك: زيد كافر لباللَّه؛ لأنها تدخل على الابتداء والخبر فتؤكد الجملة، ولا تأتي توكيدًا وقد مضت الجملة (٣).
٩ - قال مقاتل: ثم خوفهم فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يعني: الأمم الخالية كان عاقبتهم العذاب في الدنيا (٤). والمعنى: أو لم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم ويعلموا أنهم أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا. ثم وصفهم فقال:
﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي: أعطاهم من القوة ما لم يعطِ هؤلاء ﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ ذكرنا تفسير: الآثار، عند قوله: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] (٥) قال الفراء: حرثوها (٦). وهو قول مجاهد (٧).
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ، بنصه.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٩.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ.
(٥) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ أي: تقلبها للزراعة. ومعنى الإثارة: تفريق الشيء في كل جهة، يقال: أثرت الشيء واستثرته إذا هيجته...
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢. وقال أبو عبيدة: أي: استخرجوها، ومنه قولهم: أثار ما عندي: أي: استخرجه، وأثار القوم: أيَ: استخرجهم. "مجاز القرآن" ٢/ ١١٩.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٥.

وقال ابن قتيبة: قلبوها للزراعة (١).
وقال ابن عباس: يريد الأجنة (٢) والأنهار وما غرسوا من الأشجار (٣). يريد أن أثارهم كان لأجل هذه الأشياء.
وقال مقاتل: يعني: وملكوا الأرض (٤)؛ وهذا معنى وليس بتفسير؛ وذلك أنه يثير الأرض مالكها.
وقوله: ﴿وَعَمَرُوهَا﴾ يعني: الأمم ﴿أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ يعني: كفار مكة (٥). واختلفوا لِمَ كانت الأمم أكثر عمارة من أهل مكة؟ فذهب قوم إلى أنهم كانوا أكثر عمارة لأنهم كانوا أطول عمرًا؛ وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل؛ قال الكلبي: وبقوا فيها أكثر مما بقي فيها قومك (٦).
وقال مقاتل: يقول: وعاشوا في الأرض أكثر مما عاش فيها كفار مكة (٧). وإذا كانوا أطولَ بقاءً، وأكثرَ عيشًا كانوا أكثر عمارة. وقال آخرون: لأنهم كانوا أكثر عددًا؛ فقد روي أنه لم يبق نَشَزٌ (٨) من الأرض يحتمل عمارة إلا كان لها عامر على عهد عاد، والأمم السالفة. وذكر أبو إسحاق معنًى آخر؛ فقال: يعني: أن الذين أهلكوا من الأمم كانوا أكثر حرثًا
(٢) هكذا في (أ)، (ب): (الأجنة)، وهي جمع جنة. قال الأزهري: الجنة: الحديقة، جمع جنانه "تهذيب اللغة" ١٠/ ٥٠٣ (جنن).
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٤، بلفظ: ملكوا الأرض وعمروها.
(٤) لم أجده في تفسير مقاتل، ولم أجده كذلك عند الثعلبي.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢.
(٦) "تنوير المقباس" ص ٣٣٩.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب.
(٨) النَّشَزُ، والنَّشْزُ، والوَشَز: ما ارتفع من الأرض. "تهذيب اللغة" ١١/ ٣٠٥ (نشز).

وعمارة من أهل مكة؛ لأن أهلَ مكة لم يكونوا أصحاب حرث (١).
قوله: ﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد: الحلال والحرام، والأحكام والحدود. وقال مقاتل: فيعذبهم على غير ذنب (٢) ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر والتكذيب. ودلَّ هذا الكلام على أنهم لم يؤمنوا فأهلكوا؛ لأن الله أعلم أنه عذبهم غيرَ ظالم لهم.
قال صاحب النظم: يأتي [الظلم] (٣) في الكلام لثلاثة معانٍ؛ أحدها: وضع الشيء في غير موضعه، كقوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] وذلك أنه وضع الربوبية غير موضعها. والثاني: المنع والحبس، كقوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: ٣٣] والثالث: أخذ الشيء قبل وقت أخذه، كقول الشاعر:
وقائلة ظلمتُ لكم سقائي | وهل يخفى على العَكِد الظليم (٤) |
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب، في تفسير قول الله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ فلعل ذكر الآية سقط من النسختين. والله أعلم.
(٣) كلمة (الظلم) غير موجودة في النسختين، وزدتها لاستقامة الكلام.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٨٣ (ظلم)، ولم ينسبه. وكذا في "مقاييس اللغة" ٣/ ٤٦٩. وكذا في "لسان العرب" ١٢/ ٣٧٥. سبق أن استشهد الواحدي بهذا البيت في تفسير سورة البقرة. والبيت غير منسوب في "جمهرة الأمثال" ١/ ١٣١، واستشهد بهذا البيت في ذكر المثل: أهون مظلوم سِقاء مروَّب. وكذا في "مجمع الأمثال" ٢/ ٤٨٢، و"المستقصى" للزمخشري ١/ ٤٤٤. والعَكِد: أجل اللسان. "تهذيب اللغة" ١/ ٣٠٠ (عكد). معنى البيت: أن اللسان يدرك بالشرب أن اللبن قد ظُلِم بأخذه قبل وقته.