آيات من القرآن الكريم

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ

ثم قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ قال مقاتل والكلبي: يعني كفار مكة (١) ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: بالبعث بعد الموت ﴿لَكَافِرُونَ﴾ لا يؤمنون أنه كائن (٢).
قال أبو إسحاق: معناه: لكافرون بلقاء ربهم، تقدمت الباء؛ لأنها متصلة بكافرون، وما اتصل بخبر إنَّ جاز أن يُقدم قَبل اللام، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر، كقولك: زيد كافر لباللَّه؛ لأنها تدخل على الابتداء والخبر فتؤكد الجملة، ولا تأتي توكيدًا وقد مضت الجملة (٣).
٩ - قال مقاتل: ثم خوفهم فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يعني: الأمم الخالية كان عاقبتهم العذاب في الدنيا (٤). والمعنى: أو لم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم ويعلموا أنهم أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا. ثم وصفهم فقال:
﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي: أعطاهم من القوة ما لم يعطِ هؤلاء ﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ ذكرنا تفسير: الآثار، عند قوله: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] (٥) قال الفراء: حرثوها (٦). وهو قول مجاهد (٧).

(١) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ، و"تنوير المقباس" ص ٣٣٩.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ، بنصه.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٩.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٧ أ.
(٥) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ أي: تقلبها للزراعة. ومعنى الإثارة: تفريق الشيء في كل جهة، يقال: أثرت الشيء واستثرته إذا هيجته...
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢. وقال أبو عبيدة: أي: استخرجوها، ومنه قولهم: أثار ما عندي: أي: استخرجه، وأثار القوم: أيَ: استخرجهم. "مجاز القرآن" ٢/ ١١٩.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٥.

صفحة رقم 18

وقال ابن قتيبة: قلبوها للزراعة (١).
وقال ابن عباس: يريد الأجنة (٢) والأنهار وما غرسوا من الأشجار (٣). يريد أن أثارهم كان لأجل هذه الأشياء.
وقال مقاتل: يعني: وملكوا الأرض (٤)؛ وهذا معنى وليس بتفسير؛ وذلك أنه يثير الأرض مالكها.
وقوله: ﴿وَعَمَرُوهَا﴾ يعني: الأمم ﴿أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ يعني: كفار مكة (٥). واختلفوا لِمَ كانت الأمم أكثر عمارة من أهل مكة؟ فذهب قوم إلى أنهم كانوا أكثر عمارة لأنهم كانوا أطول عمرًا؛ وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل؛ قال الكلبي: وبقوا فيها أكثر مما بقي فيها قومك (٦).
وقال مقاتل: يقول: وعاشوا في الأرض أكثر مما عاش فيها كفار مكة (٧). وإذا كانوا أطولَ بقاءً، وأكثرَ عيشًا كانوا أكثر عمارة. وقال آخرون: لأنهم كانوا أكثر عددًا؛ فقد روي أنه لم يبق نَشَزٌ (٨) من الأرض يحتمل عمارة إلا كان لها عامر على عهد عاد، والأمم السالفة. وذكر أبو إسحاق معنًى آخر؛ فقال: يعني: أن الذين أهلكوا من الأمم كانوا أكثر حرثًا

(١) "غريب القرآن" ص ٣٤٠.
(٢) هكذا في (أ)، (ب): (الأجنة)، وهي جمع جنة. قال الأزهري: الجنة: الحديقة، جمع جنانه "تهذيب اللغة" ١٠/ ٥٠٣ (جنن).
(٣) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢٤، بلفظ: ملكوا الأرض وعمروها.
(٤) لم أجده في تفسير مقاتل، ولم أجده كذلك عند الثعلبي.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٢.
(٦) "تنوير المقباس" ص ٣٣٩.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب.
(٨) النَّشَزُ، والنَّشْزُ، والوَشَز: ما ارتفع من الأرض. "تهذيب اللغة" ١١/ ٣٠٥ (نشز).

صفحة رقم 19

وعمارة من أهل مكة؛ لأن أهلَ مكة لم يكونوا أصحاب حرث (١).
قوله: ﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد: الحلال والحرام، والأحكام والحدود. وقال مقاتل: فيعذبهم على غير ذنب (٢) ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر والتكذيب. ودلَّ هذا الكلام على أنهم لم يؤمنوا فأهلكوا؛ لأن الله أعلم أنه عذبهم غيرَ ظالم لهم.
قال صاحب النظم: يأتي [الظلم] (٣) في الكلام لثلاثة معانٍ؛ أحدها: وضع الشيء في غير موضعه، كقوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] وذلك أنه وضع الربوبية غير موضعها. والثاني: المنع والحبس، كقوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: ٣٣] والثالث: أخذ الشيء قبل وقت أخذه، كقول الشاعر:

وقائلة ظلمتُ لكم سقائي وهل يخفى على العَكِد الظليم (٤)
والظليم هاهنا: اللبن يُشرب قبل أن يُدْرِك وَيروب؛ والمعاني الثلاثة
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٩.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٧ ب، في تفسير قول الله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ فلعل ذكر الآية سقط من النسختين. والله أعلم.
(٣) كلمة (الظلم) غير موجودة في النسختين، وزدتها لاستقامة الكلام.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٨٣ (ظلم)، ولم ينسبه. وكذا في "مقاييس اللغة" ٣/ ٤٦٩. وكذا في "لسان العرب" ١٢/ ٣٧٥. سبق أن استشهد الواحدي بهذا البيت في تفسير سورة البقرة. والبيت غير منسوب في "جمهرة الأمثال" ١/ ١٣١، واستشهد بهذا البيت في ذكر المثل: أهون مظلوم سِقاء مروَّب. وكذا في "مجمع الأمثال" ٢/ ٤٨٢، و"المستقصى" للزمخشري ١/ ٤٤٤. والعَكِد: أجل اللسان. "تهذيب اللغة" ١/ ٣٠٠ (عكد). معنى البيت: أن اللسان يدرك بالشرب أن اللبن قد ظُلِم بأخذه قبل وقته.

صفحة رقم 20
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية