آيات من القرآن الكريم

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ

للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها: ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها وباطنها وحقيقتها: أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة «١».
الحث على التفكر في المخلوقات الدالة على وجود الله ووحدانيته
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٨ الى ١٠]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
الإعراب:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ.. ما: حرف نفي، ويَتَفَكَّرُوا قد عدّي إلى أَنْفُسِهِمْ كما عدّي في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف ٧/ ١٨٥].
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا.. عاقِبَةَ: خبر كانَ، والسُّواى اسمها، ومن قرأ عاقبة بالرفع، فهي اسم كانَ، والسُّواى: خبر كان. والسُّواى على وزن «فعلى» تأنيث للاستواء، كالحسنى تأنيث الأحسن.

(١) الكشاف: ٢/ ٥٠٣ [.....]

صفحة رقم 52

وأَنْ كَذَّبُوا مفعول لأجله، أي لأن كذبوا، ويجوز كونه في موضع رفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو أن كذبوا، أو بدل من السُّواى رفعا ونصبا. والسُّواى منصوب بأساؤوا انتصاب المصادر، لأنه مصدر.
البلاغة:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أَوَلَمْ يَسِيرُوا إنكار وتوبيخ.
أَساؤُا السُّواى جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أولم يحدثوا التفكر فيها، أو: أولم يتفكروا في أمر أنفسهم، فإنها أقرب إليهم من غيرها، فبالتفكر يرجعون عن غفلتهم ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى
ما خَلَقَ متعلق بقول محذوف معناه: أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول، وقيل: معناه: فيعلموا لأن في الكلام دليلا عليه. ومعنى قوله: إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى معناه: ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من الانتهاء إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ مثل كفار مكة بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أي لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، أي جاحدون يحسبون أن الدنيا بداية وأن الآخرة لا تكون.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حض على السير في أقطار الأرض، والنظر في آثار المدمرين من قبلهم من الأمم، وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد وثمود وَأَثارُوا الْأَرْضَ حرثوها وقلبوها للزرع والغرس وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي عمروا الأرض أكثر من عمارة أهل مكة إياها، فإنهم أهل واد غير ذي زرع. وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا، مفتخرون بها، وهم أضعف حالا فيها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، والآيات الواضحات، والحجج الظاهرات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليفعل بهم ما يفعل بالظلمة، فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم.
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي ثم كان عاقبتهم العقوبة السوأى، والمراد بها جهنم، والسوأى: تأنيث الأسوأ أي الأقبح، أو مصدر كبشرى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي كانت إساءتهم بأن كذبوا بالقرآن.

صفحة رقم 53

المناسبة:
هذه الآيات مرتبطة بما قبلها، تتضمن تهديد المشركين وحثهم على التفكر والنظر في المخلوقات الدالة على وجود الله وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره، ولا ربّ سواه، بعد بيان ما صدر منهم من إنكار الإله بإنكار وعده، وإنكار البعث، كما قال تعالى: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ.
التفسير والبيان:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي أولم يحدثوا التفكر في عقولهم، أو يفكروا في أمر أنفسهم بأن يجيلوا فيه الفكر، فيقولوا: إن الله لم يخلق الكون من السماء والأرض وما فيهما من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات الكثيرة المتنوعة والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا عبثا ولا باطلا، بل كان خلقها مقرونا بالحق، مصحوبا بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب، فإذا حل الأجل بدلت الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لحساب الله الواحد القهار.
وهذا حثّ لهم على إعمال الفكر السليم الموصل إلى معرفة الله ووحدانيته بالنظر في أنفسهم وما حولهم من مشاهد الكون، والمراد أن أسباب العلم الصحيح ومفاتيح الهداية تعتمد على العقل وأنه متوافر لديهم، لكنهم عطلوه ولم يعملوه فيما يجب إعماله.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أي وإن أكثر الناس ولا سيما الكفار لجاحدون منكرون وجود البعث والحساب لأنهم لم يتفكروا في أنفسهم، ولو تفكروا لأيقنوا بمعادهم إلى ربّهم بعد الموت.
ثم نبّه الله تعالى على صدق رسله فيما جاؤوا به عن ربهم بما أيّدهم به من

صفحة رقم 54

المعجزات الباهرات، والدلائل الواضحات المحسوسات من إهلاك من كفر برسالتهم، ونجاة من صدّقهم فقال:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَثارُوا الْأَرْضَ، وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي أولم يتنقل هؤلاء المنكرون للنبوات، المكذبون بالآخرة في بلاد الأرض، فينظروا بعقولهم وأفهامهم، ويبحثوا في آثار الله، ويسمعوا أخبار الماضين ويتأملوا بمصير المكذبين رسلهم من الأمم الماضية، علما بأنهم كانوا أشدّ قوة من أهل مكة وأمثالهم، وأكثر أموالا وأولادا، وحرثوا الأرض وقلبوها للزراعة والغرس أكثر مما فعل المكيون وسائر العرب لقحط بلادهم، واستغلوا الأرض أكثر من استغلال هؤلاء.
ثم أهلكهم الله بذنوبهم وكفرهم وتكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والأدلة المحسوسة والشواهد الناطقة بقدرة الله وتوحيده، فما كان عقابهم ظلما، وما كان من شأن الله أن يظلمهم وغيرهم فيما حلّ بهم من العذاب والنكال، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها وذنوبهم السالفة.
فالعاقل من اتّعظ بغيره، وعرف أن زخارف الدنيا ومتاعها من أموال وأولاد لا تغني عنه شيئا يوم القيامة، وقد أكد الله تعالى ذلك بقوله:
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ أي ثم كان مصير المسيئين العذاب السُّواى في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم، بسبب تكذيبهم بآيات الله ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته، واستهزائهم بها وسخريتهم منها. فقوله أَساؤُا السُّواى معناه: كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزئون.
والإساءة: التكذيب والاستهزاء، وعبر عن العقاب بالجريمة الصادرة من الكفار، على سبيل المشاكلة.

صفحة رقم 55

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- الحثّ على التفكر في الكون وإيجابه، فإن التأمل في خلق السموات والأرض والأنفس البشرية المخلوقة لحكمة ومصلحة وعدل، والمؤقتة بأجل مسمى تنتهي إليه، دليل على وجود الخالق وتوحيده وقدرته وعلى حدوث الحشر، فقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ يدل على الوحدانية لأن إحكام الخلق والتنزه عن الفساد يمنع من تعدد الآلهة، ففي وجود آلهة فساد وخلل وتعثر، وقوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى دليل على الحشر لأنه يدل على فناء العالم وتخريب الكون، وبما أن الله تعالى قادر على كل شيء فهو قادر على الإعادة ولأن الخلق بالحق يوجب أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعبا ولهوا، كما أخبر القرآن.
٢- دلّ قوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة على حدوث الفناء في نهاية عمر الدنيا، وعلى أن لكل مخلوق أجلا، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء.
٣- كثير من الناس كافرون بالبعث بعد الموت، وهذا نقص في التفكير، وقلة في العقل، فالعاقل من فكر بالمستقبل، وعمل لما بعد الموت، ولم تغره الحياة الدنيا.
٤- التبصر بعبر الماضي درس وعظة، فمن سمع بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها، وأدرك مصيرهم، وعرف سبب هلاكهم وتدميرهم، بادر إلى الإيمان بالله عزّ وجلّ، وصدّق رسله الذين جاءوهم بالمعجزات الدالة على صدقهم.
٥- الاعتماد على قوة الجسد وسعة المال، ووفرة الثروة والأولاد خطأ محض، فإن كل الأموال والمدنيات وتقدم الحضارات لا تغني أصحابها شيئا يوم القيامة.

صفحة رقم 56
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية