
بل المؤمنين عامة، والسجدة في هذه السورة من عزائم السجود، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة، روى البخاري ومسلم عن رافع قال:
صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد، فقلت ما هذه؟
قال سجدت بها خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. ولمسلم عنه قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في (اقرأ باسم ربك) و (إذا السماء انشقت) وهذه السجدة آخر السجدات الواردة في القسم المكي وهي اثنتا عشرة سجدة وبقي في القسم المدني سجدة الرعد والحج فقط تتمة الأربع عشرة سجدة، ومن قال بالسجدة آخر الحج أبلغها خمس عشرة. وقدمنا ما يتعلق بالسجود في الآية ١٥ من سورة السجدة المارة، وفيها ما يرشدك لغيرها من المواقع فراجعها ففيها كفاية. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الروم عدد ٣٤- ٨٤- ٣٠
نزلت بمكة بعد الانشقاق عدا الآية ١٧ فإنها نزلت بالمدينة، وهي ستون آية وثمنمئة وتسع عشرة كلمة، وثلاث آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
ومثلها في عدد الآي سورة الذاريات المارة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الم» تقدم ما فيه أول الأعراف ج ١ وما بعدها مما بدئت به من السور فراجعها ففيها كفاية «غُلِبَتِ الرُّومُ» ٢ قبيلة روم بن يونان بن علجان بن يافث بن نوح عليه السلام «فِي أَدْنَى الْأَرْضِ» أرض العرب، لأن أل فيها للعهد والمعهود في الخطاب أرض العرب، لأن أرض الروم التي وقع فيها الغلب قريبة منها ولأنهم هم المخاطبون في هذا القرآن.وقد تواقفت الروم مع الفرس، وكانت الفرس متوافقة مع المشركين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فغلبت فارس الروم وقهرتها «وَهُمْ» الروم المغلوبون «مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ» هذا «سَيَغْلِبُونَ» ٣ الفرس. ولا وقف هنا بل يقرأ متصلا بما بعده إذ لا يحسن الوقف عليه. وسيكون غلب الروم للفرس «فِي بِضْعِ سِنِينَ» ٤ صفحة رقم 435

آتية ما بين الثلاث والتسع «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ» هذا الغلب «وَمِنْ بَعْدُ».
وقد حذف المضاف هنا ونوى معناه، ولذلك بني الظرفان على الضمّ أي من قبل الغلب ومن بعده يكون الأمر لله وحده كما هو في سائر الأوقات، إذ لا يكون شيء إلا بقضائه وقدره وإرادته «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» يقرأ متصلا «بِنَصْرِ اللَّهِ» الروم على الفرس، لأنهم أهل كتاب، كما يفرح المشركون بنصر الفرس لأنهم مشركون مثلهم «يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ٥ وأعلم يا أكمل الرسل أن هذا الوعد بنصر الروم على الفرس «وَعْدَ اللَّهِ» حق واقع لا مرية فيه أبدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» البتة، كيف وهو الآمر بالوفاء به، وقوله الحق، وبيده الأمر «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ٦ ذلك لفرط جهلم بشئون الله عز وجل وعدم تذكرهم بما يجب عليهم وما يستحيل على الله. وفي لفظ أكثرهم دليل على أن الأقل يعلمون ذلك. واعلم أن الكفرة «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» أي أن علمهم مقصور على ما يتعلق بمعاشهم وصنايعهم ومنافعهم ومضارهم وشهواتهم، ولا يعلمون لماذا خلقوا ولا يتفكرون بحالهم ومصيرهم ومرجع ما خلق لهم، ولماذا خلق، لأن هذا كله من أمور الآخرة. ويأتي ظاهر بمعنى زائل قال الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها | وتلك شكاة ظاهر عنك عارها |
وعليه يكون المعنى يعلمون ما هو زائل فان، ولا يعلمون ما هو دائم باق والفاعل يعود على اكثر، ومن هذا القسم أن مخترع القوة الجاذبية حيث كانت قطئة تشغله بذهابها وإيابها من فتح الباب لها وغلقه، ففتح لها نفقا تحت الباب، فصارت تخرج وتدخل منه دون كلفة، واستراح منها، ثم أنها ولدت ولم ينتبه أن ذلك النفق كان لها ولأولادها فعمد وفتح لكل نفقا، مما يدل على أن الذكي البارع في شيء قد يكون أبله في غيره. وكذلك مخترع الخطوط الكهربائية أعطته خادمته بيضة كي يسلقها وقالت له أبقها على النار خمس دقائق، فأخرج الساعة ووضعها بالدلة وأمسك البيضة بيده، فقالت له للآن وأنت واضع البيضة على النار؟! فقال لها صفحة رقم 436

لم تمض الخمس دقائق بعد، فنظرت وإذ البيضة بيده والساعة في الدلة، فعكست الأمر.
فالذي يكون عن هذه الأمور التافهة غافلا فمن باب أولى أن يكون المشغول بالدنيا أغفل بكثير عن أمور الآخرة لا سيما وأن منها ما هو غير معقول، كما يدل عليه قوله «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ»
٧ ساهون لا هون بالدنيا لا ينظرون إلى ما يتعلق بها، ولا يصرفون حواسهم لما خلقت لها، لأن الله تعالى طبع عليها وسلبهم منافعها فصدّت عقولهم عن النظر إليها، أجارنا الله من ذلك. وسبب نزول هذه الآية أن كسرى بعث جيشا على رأسه شهربان ليقاتل جيش الروم الذي على رأسه مخيلن، فغلبه بأذرعات وبصرى وهما أقرب أرض للشام إلى أرض العرب، فشق ذلك على المسلمين لأنهم أهل كتاب ويودونهم، وفرح المشركون لأنهم كفرة مثلهم ويحبونهم، فقال المشركون للمسلمين إن قاتلتمونا فسوف نغلبكم أيضا لأن إخواننا غلبوا إخوانكم. قالوا وبعد نزولها قال أبو بكر للمشركين لا تفرحوا فإن الروم ستغلب فارسا في الحرب القابلة إذ أخبرنا الصادق المصدوق سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بذلك عن ربه عز وجل، وإخباره واقع لا محالة، فقال له أبي بن خلف اجعل بيننا أجلا نناصبك، أي نراهنك عليه، فجعل الأجل ثلاث سنين، وتراهنا على عشر قلاص، وأخبر أبو بكر حضرة الرسول، وكان القمار لم يحرم بعد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده بالحطمة ومادده في الأجل، فلقي أبو بكر أبيا فقال له تعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل، فاتفقا على مئة قلوص إلى تسع سنين من شهر كذا من عام كذا، وإنما فعل هذا أبو بكر لأنه جازم بأن الله تعالى لا بدّ وأن يصدق رسوله بما أخبر به لقوة إيمانه، وإلا لو لم يرد الله ذلك لما ألقى في قلبه الموافقة على تمديد الأجل بعد أن اتفقا على غيره. ولما شاع بين الناس أن أبا بكر يريد الهجرة من مكة بسبب الضيق الذي وقع على المسلمين عامة في أذى قريش، أتاه أبيّ وقال له أعطني كفيلا بالحظر إذا أنت نزلت مكة فكفله ابنه عبد الله، وبعد الهجرة أراد أبي أن يذهب مع المشركين للاشتراك في واقعة أحد الكائنة في السنة الثالثة من الهجرة، فجاءه عبد الله بن أبي بكر وطلب منه كفيلا بالحظر إذا هو مات أو قتل، فأعطاه كفيلا، ثم انه تلاقى مع

رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حرب أحد وضربه الرسول فجرحه جرحا بليغا مات منه بعد رجوعه إلى مكة، ثم ظهرت الروم على فارس بعد وقعة الحديبية على رأس سبع سنين من تاريخ المراهنة، إذ وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيها الهجرة، وهو تاريخ نزول هذه السورة، فقد هاجر صلّى الله عليه وسلم بعدها بقليل إذ لم ينزل عليه بعدها إلا العنكبوت والمطففين، وختم الوحي المكي بهما، وذلك بعد عقد المعاهدة بين شهرمان وقيصر، وقد ضمنا المعاهدة شروطا لم يحبا أن يطلع عليها خاصتهم فضلا عن عامتهم، لأنها تتعلق بمصالح الدولتين، وإذ كانت بحضور ترجمانه، وخافا أن يذيع شيئا منها وكل منهما حريص على كتمانها، فقال شهريان لقيصر السريين اثنين فإذا جاوزهما فشا، فقتلا الترجمان لئلا يفشي شيء من خبر تلك المعاهدة باتفاق الطرفين، ومنذ ذلك التاريخ صار مثلا: كل سر جاوز الاثنين شاع.
وجعلوا لهذه الشطرة صدرا: كل علم ليس في القرطاس ضاع. فقمر أبو بكر أبيا وأخذ الحظر كله من ورثته، وأمره الرسول بالتصدق به ففعل. وهذه من الآيات البينات الدالات على صدقه صلّى الله عليه وسلم التي اعترف بها المشركون أنفسهم وهي من الإخبار بالغيب.
والحكم الشرعي في هذا هو جواز المقامرة والربا والعقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار على مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد، ولم يجوزه الآخرون.
أما هذه المقامرة فقد وقعت قبل تحريم القمار وكان جائزا متعارفا بينهم، إلا أنه لما كانت التأدية بعد تحريمه وكانت العبرة بالابتداء لأن الأصل إبقاء ما كان على ما كان أخذه أبو بكر، ولو كان أخذه حراما لما أمره بالتصدق به، لأن التصدق بالحرام حرام حتى قيل إن من تصدق بالحرام طلبا للأجر يكفر. وإنما أمره بالتصدق به نورعا، ولئلا يقول المشركون أخذه أبو بكر مع قول صاحبه بحرمته أو لحاجة فيه.
قال تعالى «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» التي هي أقرب شيء منهم وما أودعها الله من غرائب الأشياء وبدايع الحكم فيها ظاهرا وباطنا وانها لا بد لها من الانتهاء ليعلموا أن أمر سائر الخلائق جرى على الحكمة الخارقة لا بد لها من الانتهاء بالأجل الذي قدّره لها مبدعها وليتحققوا أن «ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى» تفنى عند بلوغه «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ