
قِيلَ مَا لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ سَاعَةٍ. وَقِيلَ مَا لَبِثُوا فِي الْقُبُورِ، وَقِيلَ مَا لَبِثُوا مِنْ وَقْتِ فَنَاءِ الدُّنْيَا إِلَى وَقْتِ النُّشُورِ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ مِنَ الْحَقِّ إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٦]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٥٦)
قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَا هُوَ الْمَعْنَى اللَّطِيفُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، فَنَقُولُ الْمَوْعُودُ بِوَعْدٍ إِذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ يَسْتَكْثِرُ الْأَجَلَ وَيُرِيدُ تَعْجِيلَهُ، وَالْمُوعَدُ بِوَعِيدٍ إِذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ يَسْتَقِلُّ الْمُدَّةَ وَيُرِيدُ تَأْخِيرَهَا، لَكِنَّ الْمُجْرِمَ إِذَا حُشِرَ عَلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ فَيَسْتَقِلُّ مُدَّةَ اللُّبْثِ وَيَخْتَارُ تَأْخِيرَ الْحَشْرِ وَالْإِبْقَاءَ فِي الْقَبْرِ، وَالْمُؤْمِنَ إِذَا حُشِرَ عَلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَسْتَكْثِرُ الْمُدَّةَ وَلَا يُرِيدُ التَّأْخِيرَ فَيَخْتَلِفُ الْفَرِيقَانِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمَا إِنَّ مُدَّةَ لُبْثِنَا قَلِيلٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ وَيَقُولُ الْآخَرُ لَبِثْنَا مَدِيدًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ يعني كان في كاتب اللَّهِ ضَرْبُ الْأَجَلِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَنَحْنُ صَبَرْنَا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي طَلَبَكُمُ التَّأْخِيرَ، لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَلَا تَعْتَرِفُونَ بِهِ، فَصَارَ مَصِيرُكُمْ إِلَى النَّارِ فَتَطْلُبُونَ التَّأْخِيرَ. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٧]
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
أَيْ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْإِعْتَابُ وَهُوَ إِزَالَةُ الْعَتْبِ يَعْنِي التَّوْبَةُ الَّتِي تُزِيلُ آثَارَ الْجَرِيمَةِ لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ لِأَنَّهَا لَا تقبل منهم. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
قوله تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الْأَعْذَارِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ مِنَ الْإِنْذَارِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ جَانِبِ الرَّسُولِ تَقْصِيرٌ، فَإِنْ طَلَبُوا شَيْئًا آخَرَ فَذَلِكَ عِنَادٌ وَمَنْ هَانَ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ دَلِيلٍ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ الدَّلَائِلِ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يشرع في دليل/ آخر بعد ما ذَكَرَ دَلِيلًا جَيِّدًا مُسْتَقِيمًا ظَاهِرًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَعَانَدَهُ الْخَصْمُ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِوُرُودِ سُؤَالِ الْخَصْمِ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْتَرِفُ، فَإِنِ اعْتَرَفَ يَكُونُ انْقِطَاعًا وَهُوَ يَقْدَحُ فِي الدَّلِيلِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّ، إِمَّا بِأَنَّ الدَّلِيلَ فَاسِدٌ، وَإِمَّا بِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ جَاهِلٌ بِوَجْهِ الدَّلَالَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْعَالِمِ فَكَيْفَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي غَيْرِهِ مُوهِمًا أَنَّ الْخَصْمَ لَيْسَ مُعَانِدًا فَيَكُونُ اجْتِرَاؤُهُ عَلَى الْعِنَادِ فِي الثَّانِي أَكْثَرَ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْعِنَادُ أَفَادَ فِي الْأَوَّلِ حَيْثُ الْتَزَمَ ذِكْرَ دَلِيلٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ذَكَرُوا أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ، نَقُولُ

سَرَدُوهَا سَرْدًا، ثُمَّ قَرَّرُوهَا فَرْدًا فَرْدًا، كَمَنْ يَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ كَذَا، وَالثَّانِي كَذَا، وَالثَّالِثُ كَذَا، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْوَاجِبِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى عِنَادِ الْمُعَانِدِ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ بِعِنَادِهِ حَتَّى يَضِيعَ الْوَقْتُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ مَا وَعَدَ مِنَ الدَّلَائِلِ فَتَنْحَطُّ دَرَجَتُهُ فَإِذَنْ لِكُلِّ مَكَانٍ مَقَالٌ. وَإِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ وَفِي تَوْحِيدِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ وَالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَاءَ بِهَا يَقُولُونَ أَنْتُمْ كُلُّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ لِلرِّسَالَةِ مُبْطِلُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَبْعِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنْ قِيلَ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الطَّبْعِ عَلَى قَلْبِهِ؟ نَقُولُ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْآنَ فَقَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَلَّى قَلْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ أَنَّ صِدْقَكَ يُبَيَّنُ وَقَوْلُهُ: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ مُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَقَالَ الْكَافِرُ إِنَّهُ مُتَقَلِّبُ الرَّأْيِ، لَا ثَبَاتَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.