
الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله لأولئك المنكرين: لقد لبثتم من يوم مماتكم إلى يوم البعث فى قبوركم.
وفى هذا رد عليهم وعلى ما حلفوا عليه، وإطلاع لهم على الحقيقة.
ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على؟؟؟ البعث بقولهم:
(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فهذا هو اليوم الذي أنكرتموه فى الدنيا، وزعمتم أنه لن يكون لتفريطكم فى النظر وغفلتكم عن الأدلة المتظاهرة عليه.
ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، ذكر أن المعاذير لا تجدى فى هذا اليوم، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا، لإصلاح ما فسد من أعمالهم، فقال:
(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ففى هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا، كقولهم: ما علمنا أن هذا اليوم كائن، ولا أنا نبعث فيه، ولا هم يرجعون إلى الدنيا ليتوبوا، لأن التوبة لا تقبل حينئذ فالوقت وقت جزاء لا وقت عمل، وقد حقت عليهم كلمة ربهم «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والخلاصة: إنهم لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون عليها.
ونحو الآية قوله: «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ».
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)

المعنى الجملي
بعد أن ذكر من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر، وأعاد وكرر، بشتى البراهين، وبديع الأمثال- أردف ذلك أنه لم يبق بعد هذا زيادة لمستزيد، وأن الرسول ﷺ قد أدى واجبه، وأن من طلب شيئا بعد ذلك فهو معاند مكابر، فإن من كذّب الدليل الواضح اللائح، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد | وينكر الفمّ طعم الماء من سقم |
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد أوضحنا لهم الحق، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق، وعلى البعث وصدق الرسول، ليستبينوا الحق ويتبعوه، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارا وعنادا كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي والله لئن جئتهم بالآيات لا يؤمنون بها، بل يعتقدون أنها سحر مفترى، وما هى إلا أساطير الأولين.
ونحو هذا قوله: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ».
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبرة والعظات، والآيات البينات، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب لسوء استعدادهم، ولما دسوابه أنفسهم من سوء القول والفعل، فهم فى طغيانهم يعمهون.
ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم، وعدم الالتفات إلى عنادهم، فقال:
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما ينالك من أذى صفحة رقم 68

المشركين، وبلغهم رسالة ربك، فإن وعده الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم، وتمكينك وتمكين أصحابك وأتباعك فى الأرض- حق لا شك فيه، وليكونن لا محالة.
(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي ولا يحملنك الذين لا يوقنون بالميعاد ولا يصدقون بالبعث بعد الممات- على الخفة والقلق، فيثبطوك عن أمر الله والقيام بما كلفك به من تبليغ رسالته.
وفى هذا إرشاد لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتعليم له، بأن يتلقى المكاره بصدر رحب، وسعة حلم.
أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا وهو فى صلاة الفجر فقال: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» فأجابه وهو فى الصلاة:
«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ».
ولا عجب من صدور مثل هذا الجواب على البديهة من على كرم الله وجهه، وهو مدينة العلم.
وصل ربنا على محمد وآله الكرام، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(١) إثبات النبوة بالإخبار بالغيب.
(٢) البراهين الدالة على الوحدانية.
(٣) الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم.
(٤) الأدلة التي فى الآفاق شاهدة على وحدانية الله وعظيم قدرته.
(٥) الأدلة على صحة البعث.
(٦) ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا يوم القيامة.
(٧) الأمر بعبادة الله وحده وهى الفطرة التي فطر الناس عليها.
(٨) النهى عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم.
(٩) من طبيعة المشرك الإنابة إلى الله إذا مسه الضر، والإشراك به حين الرخاء.
(١٠) من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(١١) الأمر بالتصدق على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.
(١٢) الدلائل التي وضعها سبحانه فى الأنفس شاهدة على وحدانيته.
(١٣) للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
(١٤) فى النظر فى آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر.
(١٥) تسلية الرسول على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمى لا يسمعون ولا يبصرون.
(١٦) بيان أن الكافرين يكذبون فى الآخرة كما كانوا يكذبون فى الدنيا.
(١٧) الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية فى الإعذار والإنذار، وأن قومه قد بلغوا الغاية فى التكذيب والإنكار.
(١٨) أمره ﷺ بإدامة التبليغ مهما لاقى من الأذى، فإن العاقبة والنصر له، والخذلان لمن كذب به.

سورة لقمان
هى مكية إلا الآيات ٢٨، ٢٩، ٣٠ فمدنية، فإن النبي ﷺ لما هاجر إلى المدينة قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» أعنيتنا أم قومك؟ قال: كلّا عنيت، فقالوا: إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شىء، فقال عليه الصلاة والسلام ذلك فى علم الله قليل، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
وآيها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات.
وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي ﷺ عن قصة لقمان مع ابنه وعن برّه والديه، فنزلت.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(١) إنه تعالى قال فى السورة السالفة: «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» وأشار إلى ذلك فى مفتتح هذه السورة.
(٢) إنه قال فى آخر ما قبلها: «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» وقال فى هذه: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً».
(٣) إنه قال فى السورة السابقة: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقال هنا: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ»، ففى كلتيهما إفادة سهولة البعث.
(٤) إنه ذكر هناك قوله: «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ»، وقال هنا: «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» فذكر فى كل من الآيتين قسما لم يذكره فى الآخر.