الوصول إلى الإيمان بالله، فهم صمّ عمي لا يسمعون ولا يبصرون، وأنهم مهما رأوا من الآيات، وشاهدوا من البراهين والمعجزات، لن يؤمنوا بسبب العناد، والتشبث بمواقع الكفر، والحفاظ على مراكز الزعامة والنفوذ بين العرب.
وهذا يقتضي الصبر على أذى المشركين حتى يأتي النصر، ومتابعة القيام بواجب تبليغ الرسالة، فإنه قد يهتدي بعضهم أو غيرهم، وسيكون النصر في جانب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والخذلان لمن كذب به، ولن يؤثر في مسيرة دعوته كفر الذين لا يوقنون بالبعث بعد الممات.
الإخبار بالغيب في المستقبل
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
الإعراب:
مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ غلب: مصدر مضاف إلى المفعول، وتقديره: وهم من بعد أن غلبوا سيغلبون.
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ظرف مبني على الضم لأنه مقطوع عن الإضافة، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة كلمة واحدة، فلما اقتطع عن الإضافة، نزّل منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني. والبناء على الضم تعويضا عن المحذوف، لأنه أقوى الحركات، ولئلا تلتبس حركة الإعراب بحركة البناء، فلو بني على الفتح أو الكسر، لالتبست حركة الإعراب بحركة البناء. صفحة رقم 45
بِنَصْرِ اللَّهِ في موضع نصب، متعلق ب يَفْرَحُ.
وَعْدَ اللَّهِ منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، والمصدر مضاف إلى الفاعل.
البلاغة:
غُلِبَتِ وسَيَغْلِبُونَ بينهما طباق، وكذا بين قَبْلُ وبَعْدُ.
لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً بينهما طباق السلب.
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ صيغة مبالغة، أي البالغ نهاية العزة وغاية الرحمة.
وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ تكرار الضمير لإفادة الحصر، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على استمرار الغفلة.
المفردات اللغوية:
غُلِبَتِ الرُّومُ الروم: أمة ذات مدنية وحضارة وقوة، من ولد روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، كانوا نصارى، غلبتهم فارس الذين كانوا يعبدون الأوثان، ففرح كفار مكة بذلك، وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة، وأقرب مكان إلى أرض العرب من جهة الشام، فيها التقى الجيشان، وكان الفرس هم البادئين بالغزو وَهُمْ الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أضيف المصدر إلى المفعول، أي غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس.
فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع: ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى العشر، وقد تم لقاء الجيشين فعلا في السنة السابعة من اللقاء الأول، وغلبت الروم فارس لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل غلب الروم ومن بعده، والمعنى أن غلبة الفرس أولا وغلبة الروم ثانيا تم بأمر الله، أي إرادته وَيَوْمَئِذٍ يوم تغلب الروم.
بِنَصْرِ اللَّهِ أي نصر أهل الكتاب على من لا كتاب له الْعَزِيزُ الغالب الرَّحِيمُ الواسع الرحمة بالمؤمنين وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد للفعل، أي وعدهم الله النصر وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ كفار مكة لا يَعْلَمُونَ وعده تعالى بنصرهم لجهلهم وعدم تفكيرهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يشاهدونه منها من المعايش في التجارة والزراعة والبناء والغرس وغير ذلك.
وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي أنهم غافلون عن الغاية والمقصود من الحياة، لا تخطر ببالهم، وإعادة هُمْ تأكيد.
سبب النزول:
أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر، ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت الم، غُلِبَتِ الرُّومُ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، وهم بمكة، قبل أن يخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقولون: الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فكيف غلب المجوس الروم، وهم أهل كتاب؟! فسنغلبكم كما غلب فارس الروم، فأنزل الله: الم، غُلِبَتِ الرُّومُ.
وأخرج الترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي: أن فارس غزوا الروم، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام، فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قبل أن الفرس مجوس، والروم أهل الكتاب، وفرح المشركون بمكة وشمتوا، ولقوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المشركين، فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا، ولا يقرّنّ الله أعينكم «١»، فو الله لتظهرنّ الروم على فارس، كما أخبرنا بذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم، فقام إليه أبيّ بن خلف فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه «٢» على عشر قلائص «٣» مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت،
(٢) أراهنك.
(٣) جمع قلوص وهي الناقة الشابة الفتية.
وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره،
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «زايده في الخطر «١» وماده في الأجل»
فخرج أبو بكر، فلقي أبيا، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة، طلب منه أبي كفيلا بالخطر إن غلب، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد، طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلا، ومات أبيّ من جرح جرحه إياه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الموقعة، وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي،
وجاء به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تصدّق به».
وقد كان هذا قبل تحريم القمار، لأن السورة مكية، وتحريم الخمر والميسر بالمدينة. واستدل به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب.
والآية من دلائل النبوة، لأنها إخبار عن الغيب.
التفسير والبيان:
الم هذه الحروف المقطعة التي تقرأ هكذا: «ألف، لام، ميم» للتنبيه على إعجاز القرآن، كما تقدم في أمثالها، وتنبيه السامع على الاستماع بقلبه لما يلقى إليه بعدها.
غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ أي غلبت فارس قوم الروم في أقرب أرض الروم إلى بلاد العرب في مشارف الشام، بين الأردن وفلسطين، وسيغلب الروم فارس في بضع سنين (ما بين الثلاث إلى العشر من السنين) من تاريخ الوقعة الأولى، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
وهذا إخبار بالغيب عن أمر في المستقبل، أيده الواقع، وقد نزلت الآيات كما بينا حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل. فبعد نزول سورة الروم سنة ٦٢٢ م ببضع سنين في سنة ٦٢٧ م أحرز هرقل أول نصر حاسم للروم على الفرس في نينوى على نهر دجلة، وانسحب الفرس لذلك من حصارهم للقسطنطينية، ولقي كسرى أبرويز مصرعه سنة ٦٢٨ م على يد ولده (شيرويه).
ولقد كانت هاتان الدولتان مسيطرتين على العالم القديم: فارس في الشرق، والروم في الغرب، وكانتا تتنازعان السيادة على بلاد الشام وغيرها.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي الأمر كله من قبل الغلبة ومن بعدها، فتغلب إحدى الدولتين على الأخرى بقضاء الله وقدره، فهو يقضي في خلقه بما يشاء: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران ٣/ ١٤٠] فليس الانتصار دائما عن قوة مادية ذاتية، وإنما القوة إحدى وسائل النصر، والمعول في النهاية إرادة الله وقدرته، فقد يتغلب الضعيف على القوي، والقليل على الكثير: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: ٢/ ٢٤٩].
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أي ويوم ينتصر الروم النصارى أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى الوثنيين المجوس، يفرح المؤمنون بنصر الله أهل الدين والكتاب على من لا دين له ولا كتاب.
يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي ينصر الله من يريد على الأعداء، فهو الفعال لما يريد، وهو القوي الذي لا يغلب، المنتقم من أعدائه،
المعزّ أولياءه بقوته وقدرته، الرحيم بعباده المؤمنين، فلا يدع القوي يتحكم بالضعيف، ولا يعاجل بالانتقام على الذنوب، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر ٣٥/ ٤٥].
روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار عن أبي سعيد الخدري قال:
لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، ففرحوا به، وأنزل الله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
وقال جماعة آخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية. والمهم أنه لما انتصرت الروم على الفرس، فرح المؤمنون بذلك لأن الروم أهل كتاب في الجملة، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى.. الآية [المائدة ٥/ ٨٢].
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد حق من الله، وخبر صدق، والله لا يخلف الميعاد، ولا بد من وقوعه، لأن سنة الله أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون بحكم الله وأفعاله القائمة على العدل، لجهلهم بالسنن القائمة في الكون.
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي أكثر الناس لهم علم ظاهري بالدنيا وعلومها المادية كتدبير شؤون المعيشة، وتحصيل الأموال والمكاسب من تجارة وزراعة وصناعة وغيرها، ولكنهم غافلون عن أمور الدين والآخرة، كأنهم عديمو الفكر والنظر، لا ينظرون إلى المستقبل
وما ينتظرهم من نعيم مقيم إن آمنوا وعملوا الصالحات، أو عذاب مهين إن كفروا وعصوا أوامر ربهم، فلا يعملون أبدا لما ينفعهم في الآخرة، وعلمهم منحصر في الدنيا، بل لا يعلمون الدنيا على حقيقتها، وإنما يعلمون ظاهرها، وهي ملاذها وملاعبها، ولا يعلمون باطنها وهي مضارها ومتاعبها، فهم عن الآخرة غافلون.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إثبات صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعواه النبوة والرسالة، وإعلام قاطع بأن القرآن كلام الله الذي يعلم وحده الغيب في السموات والأرض. وتلك معجزة واضحة بالإخبار عن مغيبات المستقبل، وقد وقع الأمر كما أخبر القرآن الكريم.
٢- الله تعالى متفرد بالقدرة الشاملة النافذة، فكل ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه، وبإرادته وقدرته، فلله الأمر، أي إنفاذ الأحكام سواء قبل هذه الغلبة وبعدها، والله دائما هو القوي العزيز في نقمته، الرحيم لأهل طاعته.
٣- يبشر الله تعالى المؤمنين بنصر أهل الكتاب المتعاطفين مع المسلمين، لاجتماعهم على الإيمان بالإله والإيمان باليوم الآخر، على الفرس المجوس الوثنيين الذين لا يؤمنون بشيء من الكتب السماوية، ولا بالله تعالى ولا بالآخرة.
٤- وعد الله لا يخلف لأن كلامه حق وصدق، ولكن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون وعده، ولا أنه لا خلف في وعده.
٥- إن أكثر الناس لا سيما الكفار عاملون بظواهر الأمور الدنيوية من اكتساب الأموال والمعايش ومعرفة شؤون الزراعة والتجارة والصناعة والعلوم المادية، ولكنهم غافلون عن العلم بالآخرة وعن العمل بها.
قال الزمخشري: أفاد قوله تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا أن