
جماعة كجماعة، وكذلك بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: ٦] وكذلك نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: ١]، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس، وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: ٦] قاض بتباين الصنفين، وقوله تعالى: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بعضهم بعضا، فيجيء من هذا في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته، وكل من هذه صفته- وقد أغواه الشيطان- يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها، فيجيء من هذا أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم، لكن على غير تعيين، والضمير في قوله، خالِدِينَ فِيها قال الطبري: يعود على عقوبة الله التي يتضمنها معنى اللعنة، وقال قوم من المفسرين: الضمير عائد على اللعنة.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم، فالضمير عائد على النار، وإن كان لم يجر لها ذكر، لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع كما يفهم قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: ٢٦] أنها الأرض، وقد قال بعض الخراسانيين في قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: ٤٥] إن الضمير عائد على النار ويُنْظَرُونَ في هذه الآية، بمعنى يؤخرون، ولا راحة إلا في التخفيف أو التأخير فهما مرتفعان عنهم، ولا يجوز أن يكون يُنْظَرُونَ هنا من نظر العين إلا على توجيه غير فصيح لا يليق بكتاب الله تعالى وقوله جل وعز إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء متصل يبين ذلك قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التوبة: الرجوع، والإصلاح عام في القول والعمل، وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «والناس أجمعون».
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
اختلف المتأولون في كيف يترتب كفر بعد إيمان، ثم زيادة كفر، فقال الحسن وقتادة وغيرهما: الآية في اليهود كفروا بعيسى بعد الإيمان بموسى ثم ازْدادُوا كُفْراً بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أبو محمد: وفي هذا القول اضطراب، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف بالمخاطبين، وقال أبو العالية رفيع: الآية في اليهود، كفروا بمحمد ﷺ بعد إيمانهم بصفاته وإقرارهم أنها في التوراة، ثم ازدادوا كفرا بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم، من الافتراء والبهت والسعي على الإسلام وغير ذلك.
قال الإمام أبو محمد: وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية المرتدون اللاحقون بقريش وغيرهم، وقال

مجاهد: معنى قوله ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي تموا على كفرهم وبلغوا الموت به، فيدخل في هذا القول اليهود والمرتدون، وقال السدي نحوه، ثم أخبر تعالى أن توبة هؤلاء لن تقبل، وقد قررت الشريعة أن توبة كل كافر تقبل، سواء كفر بعد إيمان وازداد كفرا، أو كان كافرا من أول أمره، فلا بد في هذه الآية من تخصيص تحمل عليه ويصح به نفي قبول التوبة فقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: نفي قبول توبتهم مختص بوقت الحشرجة والغرغرة والمعاينة، فالمعنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عند المعاينة، وقال أبو العالية:
معنى الآية: لن تقبل توبتهم من تلك الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يقولون في بعض الأحيان: نحن نتوب من هذه الأفعال، وهم مقيمون على كفرهم، فأخبر الله تعالى، أنه لا يقبل تلك التوبة.
قال الفقيه الإمام: وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين ختم الله عليهم بالكفر، وجعل ذلك جزاء لجريمتهم ونكايتهم في الدين، وهم الذين أشار إليهم بقوله كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً [آل عمران: ٨٦] فأخبر عنهم أنهم لا تكون لهم توبة فيتصور قبولها، فتجيء الآية بمنزلة قول الشاعر:
(على لا حب لا يهتدى بمناره) أي قد جعلهم الله من سخطه في حيز من لا تقبل له توبة إذ ليست لهم، فهم لا محالة يموتون على الكفر، ولذلك بيّن حكم الذين يموتون كفارا بعقب الآية، فبانت منزلة هؤلاء، فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين، أنهم يموتون كفارا، ثم أخبر الناس عن حكم من يموت كافرا والضَّالُّونَ المخطئون الطريق القويم في الأقوال والأفعال، وقرأ عكرمة: «لن نقبل» بنون العظمة «توبتهم» بنصب التاء.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية، جزم للحكم على كل مواف على الكفر إلى يوم القيامة، وقرأ عكرمة: «فلن نقبل» بنون العظمة «ملء الأرض» بالنصب، و «الملء» ما شحن به الوعاء، فهو بكسر الميم الاسم وبفتحها المصدر، تقول ملأت الشيء أملؤه ملأ والملء اسم ما ملأت به، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو السمال: «مل» دون همزة، ورويت عن نافع وذَهَباً نصب على التمييز، وقرأ ابن أبي عبلة: «ذهبا لو افتدى» به، دون واو، واختلف الناس في هذه الآية في قوله وَلَوِ افْتَدى فقال الطبري: هي متعلقة بمحذوف في آخر الكلام دل عليه دخول الواو، كما دخلت في قوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: ٧٥] لمتروك من الكلام، تقديره وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض.
قال الفقيه الإمام: وفي هذا التمثيل نظر فتأمله، وقال الزجّاج: المعنى: لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا «ولو أنفق ملء الأرض ذهبا ولو افتدى» أيضا به في الآخرة لم يقبل منه، قال: فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا قول حسن، وقال قوم: الواو زائدة وهذا قول مردود، ويحتمل أن