آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ

ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار «قد» بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق وَاللَّهُ لا يَهْدِي لا يلطف بالقوم الظالمين المعاندين الذين علم أن اللطف لا ينفعهم إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر العظيم والارتداد وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا أو ودخلوا في الإصلاح. وقيل:
نزلت في الحرث بن سويد بعد أن ندم على ردّته وأرسل إلى قومه أن سلوا: هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية، فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم توبته.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن. أو كفروا برسول اللَّه بعد ما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم في كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الإيمان به، وسخريتهم بكل آية تنزل. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، ازديادهم الكفر أن قالوا نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون، وإن أردنا الرجعة تافقنا بإظهار التوبة. فإن قلت: قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر، لأنّ الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم. فإن قلت: فلم قيل في إحدى الآيتين (لَنْ تُقْبَلَ) بغير فاء، وفي الأخرى (فَلَنْ يُقْبَلَ) ؟ قلت: قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بنى على الشرط والجزاء. وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر. وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب، كما تقول: الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم. فإن قلت: فحين كان المعنى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)

صفحة رقم 382

بمعنى الموت على الكفر، فهلا جعل الموت على الكفر مسببا عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت: لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فإن قلت: فأى فائدة في هذه الكناية، أعنى أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟ قلت: الفائدة فيها جليلة، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها: ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة ذَهَباً نصب على التمييز. وقرأ الأعمش: ذهب، بالرفع ردا على ملء، كما يقال: عندي عشرون نفسا رجال. فإن قلت: كيف موقع قوله وَلَوِ افْتَدى بِهِ «١» ؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى،

(١). قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت كيف موقع قوله ولو افتدى به... الخ» قال أحمد: لم يبين تطبيق لفظ الآية على هذا التقدير الذي ذهب إليه بوجه، ونحن نبين السبب الباعث له على إخراج الكلام عن ظاهره، ثم نقرر وجها يطابق الآية، وذلك أن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعى شرطا آخر يعطف عليه الشرط المقتربة به ضرورة، والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى، مثاله قولك: أكرم زيداً ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم زيداً لو أحسن ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه إن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى. ومنه (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) معناه- واللَّه أعلم-: لو كان الحق على غيركم، ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم، فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى بالوجوب، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهراً، لأن قوله: (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) يقتضى شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، وهذه الحال المذكورة وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبا هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها، فلذلك قدر الكلام بمعنى: لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبا هو أولى بالقبول منها، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى، فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور. وأما تنزيل الآية عليه فعسر جداً، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء اللَّه فنقول:
قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال: منها أن يؤخذ منه على وجه لقهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهراً من مال القاتل على قول. ومنها أن يقول المفتدى في التقدير: أفدى نفسي بكذا، وقد لا يفعل. ومنها أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدى به نفسه ويجعله حاضراً عتيداً، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته.
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهو أن يفتدى بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجرى هذا المجرى بطريق الأولى، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها، تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة. وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) واللَّه أعلم.
وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم.
ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمنها إلى في يدي هذه. فتأمل هذا النظر فانه من السهل الممتنع. واللَّه ولى التوفيق.

صفحة رقم 383
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشريّ، جار الله، أبو القاسم
الناشر
دار الكتاب العربي - بيروت
الطبعة
الثالثة - 1407 ه
عدد الأجزاء
4
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية