
أحدها: إني أتفكر في يوم الميثاق. حيث قال: هؤلاء في الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت. والثاني حيث صوّرني في رحم أمي فقال الملك الموكل على الأرحام: يا رب شقي أم سعيد؟ فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت. والثالث حيث يقبض روحي ملك الموت فيقول: يا رب أمع الكفار أم مع المؤمنين؟ فلا أدري كيف يخرج الجواب. والرابع حيث يقول: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: ٥٩]، فلا أدري من أي الفريقين أكون. ثم قال تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني لا خالق ولا مصور إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ يعني المنيع بالنقمة لمن جحده الْحَكِيمُ يحكم تصوير الخلق على ما يشاء.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧ الى ٩]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعني من القرآن آيات واضحات ويقال مبينات بالحلال والحرام. ويقال: ناسخات لم تنسخ قط هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعني أصل كل كتاب، وهي ثلاث آيات من سورة الأنعام وهو قوله تعالى:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ١٥١] وروي عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول: فاتحة الكتاب أم الكتاب؟ فقال له ابن عباس: بل أم الكتاب قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ١٥١] إلى آخر ثلاث آيات الآية.
ثم قال تعالى وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ قال الضحاك أي منسوخات وقال الكلبي يعني ما اشتبه على اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ألم، والمص ويقال المحكم ما كان واضحاً لا يحتمل التأويل، والمتشابه الذي يكون اللفظ يشبه اللفظ، والمعنى مختلف.
ويقال: المحكم الذي هو حقيقة اللغة، والمتشابه ما كان مجاوزاً. ويقال: المحكمات التي فيها دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والمتشابه الذي اشتبهت الدلالة فيه، فإن قيل: إذا أنزل القرآن للبيان، فكيف لم يجعل كله، واضحاً؟ قيل: الحكمة في ذلك، والله أعلم أن يظهر فضل العلماء، لأنه لو كان الكل واضحاً، لم يظهر فضل العلماء بعضهم على بعض. وهكذا يفعل

كل من يصنف تصنيفاً يجعل بعضه واضحاً، وبعضه مشكلاً، ويترك للحيرة موضعاً، لأن ما هان وجوده، قل بهاؤه.
ثم قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني مَيْل عن الحق وهم اليهود فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قال الضحاك: يعني ما نسخ منه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الشرك واستبقاؤه ما هم عليه وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي طلب ثناء هذه الأمة. ويقال: طلب وقت قيام الساعة وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يعني منتهى ملك هذه الأمة، وذلك أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم حيي بن أخطب وغيره، فقالوا: بلغنا أنه نزل عليك ألم، فإن كنت صادقاً في مقالتك، فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة، لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، يعني: منتهى ملك هذه الأمة، ثم قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال الكلبي ومقاتل: استأنف الكلام يعني لما قال وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فقد تم الكلام ثم استأنف فقال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي البالغون العلم في كتبهم التوراة والإنجيل يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يعني القرآن كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال بعضهم:
هو معطوف عليه. يقول: وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يعني يعلمون تأويله.
ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
وروى ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه كان يقرأ، وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم: آمنا به، وهذا يوافق قول الكلبي ومقاتل. وقال عامر الشعبي: لو كان ابن عباس بين أظهرنا ما سألته عن آية من التفسير، لأني أحلُّ حلاله، وأحرّم حرامه، وأو من بمتشابهه، وأكل ما لم أعلم منه إلى عالمه.
ثم قال تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ يعني ما يتعظ بما أنزل من القرآن إلا ذوو العقول من الناس. ثم قال عبد الله بن سلام وأصحابه، حين سمعوا قول اليهود وتكذيبهم:
رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا يعني لا تُحَوّل قلوبنا عن الهدى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا يعني بعد ما أكرمتنا بالإسلام، وهديتنا لدينك وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يني ثَبِّتْنا على الهدى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ أي المعطي المثبت للمؤمنين رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ بعد الموت لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ أي في يوم لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائنٌ لا محالة.
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ في البعث ويقال معناه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ في إجابة الدعاء يعني يوم يجمع الناس في الآخرة.