
شرح الكلمات:
﴿مُحْكَمَاتٌ١﴾ : الظاهرة الدلالة البينة المعنى التي لا تحتمل إلا معنى واحداً، وذلك كآيات الأحكام من حلال وحرام وحدود، وعبادات، وعبر وعظات.
﴿مُتَشَابِهَاتٌ﴾ : غير ظاهرة الدلالة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخون في العلم القول فيها وهي كفواتح السور، وكأمور الغيب٢. ومثل قول الله تعالى في عيسى عليه السلام: ﴿... وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ٣ وَرُوحٌ مِنْهُ... ﴾ وكقوله تعالى: ﴿... إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ٤..﴾.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ : الزيغ: الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة.
﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ : أي: طلباً لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم.
﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ : طلباً لتأويله ليوافق معتقداتهم الفاسدة.
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ﴾ : وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إلا الله منزله.
﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ٥﴾ : هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق فلا يزلون ولا يشتطون في شبهة أو باطل.
﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ : أي المحكم والمتشابه فنؤمن به جميعاً.
﴿إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ : أصحاب العقول الراجحة والفهوم السليمة.
﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا٦﴾ : أي: لا تمل قلوبنا عن الحق بعدما هديتنا إليه وعرفتنا به فعرفناه.
﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ : أعطنا من عندك رحمة.
٢ قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
٣ سورة النساء: ١٧١.
٤ سورة الأنعام: ٥٧.
٥ روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل عن الراسخين في العلم: "هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه".
٦ سئلت أم سلمة رضي الله عنها في حديث حسن رواه الترمذي عن ما كان أكثر دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندها فقالت: "كان أكثر دعاؤه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".

معنى الآيات:
ما زال تعالى يقرر ربوبيته وألوهيته ونبوة رسوله ويبطل دعوى نصاري نجران في ألوهية المسيح عليه السلام، فيقول: هو أي: الله الحي القيوم الذي أنزل عليك الكتاب، أي: القرآن منه آيات محكمات، لا نسخ فيها ولا خفاء في معناها ولا غموض في دلالتها على ما نزلت فيه وهذه معظم آي الكتاب وهي أمة واصلة، ومنه آيات أخر متشابهات وهي قليلة والحكمة من إنزالها كذلك الامتحان والاختبار بالحلال والحرام، وبأمور الغيب ليثبت على الهداية والإيمان من شاء الله هدايته، ويزيغ في إيمانه وضل عن سبيله من شاء الله تعالى ضلاله وعدم هدايته. فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ... ﴾ أي: ميل عن الحق ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ للخروج به عن طريق الحق وهداية الخلق كما فعل النصارى حيث ادعوا أن الله ثالث ثلاثة؛ لأنه يقول نخلق ونحيي، ونميت، وهذا كلام جماعة فأكثر، وكما قالوا في قوله تعالى في شأن عيسى: ﴿... وَرُوحٌ مِنْهُ١... ﴾ أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى: ﴿... إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ٢... ﴾ فلا يجوز لأحد أن يحكم في شيء وكفروا علياً وخرجوا٣ عنه لتحكيمه أبا موسى الأشعري في حقيقة الخلاف بين على ومعاوية، وهكذا يقع أهل الزيغ في الضلال حيث يتبعون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد الله تعالى منه. وأخبر تعالى أنه لا يعلم تأويله إلا هو سبحانه وتعالى، وأن الراسخين٤ في العلم يفوضون أمره إلى الله منزله فيقولون ﴿... آمَنَّا بِهِ٥ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَاب٦﴾، ويسألون ربهم الثبات
٢ سورة الأنعام: ٥٧.
٣ روى أن أبا أمامة رضي الله عنه مر برؤوس منصوبة عند باب مسجد دمشق فسأل عنها، فقيل: إنها رؤوس خوارج جيء بها من العراق فقال: "أولئك كلاب النار ثلاثاً شر قتلة تحت ظل السماء طوبى لمن قتلهم ثلاثاً ثم بكى، فقيل ما يبكيك. فقال: رحمة بهم إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه، ثم قرأ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿أولو الألباب﴾.
٤ روى أن ابن عباس رضي الله عنه قال: "التفسير على أربعة أنحاء: تفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله". كما يروى هذا عن عائشة وغيرها.
٥ الجمهور على أن الوقف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ﴾ ومن هنا قالوا: لا يعلم المتشابهة إلا الله، وهو مما استأثر به دون عباده ومن قال: "أن قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ﴾، قالوا: إن الراسخين في العلم قد يعلمون المتشابه دون البعض ويدل عليه قولهم: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ أي: ما علمناه وما لم نعلمه، وروى أن ابن عباس قال: "أنا ممن يعلم تأويله".
٦ هذه الجملة ليست من كلام الراسخين ولكنها من كلام الله تعالى فهي تذييل للكلام السابق سيقت للثناء عليهم.

على الحق فيقولون: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً..﴾ ترحمنا بها في دنيانا وأخرانا إنك أنت وحدك الوهاب، لا إله غيرك ولا رب سواك، ويقررون مبدأ المعاد والدار الآخرة فيقولون سائلين ضارعين ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لمحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم فاغفر لنا وارحمنا يومئذ حيث آمنا بك وبرسولك وبكتابك محكم آيه ومتشابهه، إنك لا تخلف الميعاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- في كتاب الله المحكم والمتشابه، فالمحكم يجب الإيمان به، والعمل بمقتضاه، والمتشابه يجب الإيمان به ويفوض أمر تأويله إلى الله منزله ويقال: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾.
٢- أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه١ يجب هجرانهم والإعراض عنهم؛ لأنهم مبتدعة وأهل أهواء.
٣- استحباب الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن٢ والضلال.
٤- تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
٢ روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أيام حروب الردة كان يصلي المغرب فيقرأ بالفاتحة وسورة من قصار المفصل، وفي الركعة الثالثة بأم القرآن ويقرأ قوله تعالى سراً: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ يقنت بها. كما روي عن عائشة أنها قالت: "إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب".