آيات من القرآن الكريم

بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٨٥]

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: الآية: قال أكثر المفسّرين: نزلت هذه الآية في اليهود كلّهم، أخبر الله تعالى إنّ فيهم أمانة وخيانة. والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل.
فإن قيل: فأيّ فائدة في هذه الأخبار وقد علمنا أنّ النّاس كلّهم لم يزالوا كذلك منهم الأمين ومنهم الخائن.
قلنا: تحذير من الله تعالى للمؤمنين أن يأتمونهم على أموالهم أو يغترّوا بهم لاستحلالهم أموال المؤمنين.
وهذا كما
روي في الخبر: أتراعون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه كي يحذره النّاس.
وقال بعضهم: الأمانة راجعة إلى من أسلم منهم، والخيانة راجعة إلى من لم يسلم منهم.
وقال مقاتل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من الذّهب فأدّاه إليه فمدحه الله.
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: في مخاض بن عازورا وذلك أنّ رجلا من قريش استودعه دينارا فخانه.

صفحة رقم 94

وفي بعض التفاسير: إنّ الّذي يؤدّي الأمانة في هذه الآية هم النصارى، والذين لا يؤدّونه هم اليهود.
وفي قوله تَأْمَنْهُ: قراءتان.
قرأ الأشهب العقيلي: تيمنه بكسر التاء وهي لغة بكر وتميم، وفي حرف ابن مسعود ما لك لا تيمنّا.
وقراءة العامّة تَأْمَنْهُ بالألف. والدينار أصله دنّار فعوّض من إحدى النّونين ياء طلبا للخفّة لكثرة استعماله، يدلّ عليه أنّك تجمعه دنانير.
وفي قوله يُؤَدِّهِ وأخواته خمس قراءات.
فقرأها كلّها أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة: ساكنة الهاء.
وقرأ أبو جعفر ويعقوب: مختلسة مكسورة. وقرأ سلام: مضمومة مختلسة. وقرأ الزهري:
مضمومة مشبعة.
وقرأ الآخرون: مكسورة مشبعة فمن سكّن الهاء فإنّ كثيرا من النحاة خطّئوه، لأن الجزم ليس في الهاء إذا تحرك ما قبلها والهاء اسم المكنّى والأسماء لا تجزم.
قال الفرّاء: هذا مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها فيقول: ضربته ضربا شديدا، كما يسكّنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع.
وأنشد:

لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع مال إلى أرطأة حقف «١» فاضطجع «٢»
وقال بعضهم: إنّما جاز إسكان الهاء في هذه المواضع لأنّها وضعت في موضع الجزم وهو الياء الذاهب، ومن اختلس فإنّه اكتفى بالضمّة عن الواو وبالكسر عن الياء وأنشد الفرّاء:
أنا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن قناعه مغطيّا فإنّي لمجتلى «٣»
وأنشد سيبويه:
فإن يكن غثّا أو سمينا فإنّه سيجعل عينيه لنفسه مغمضا
ومن أشبع الهاء فعلى الأصل لما كان الحرف ضعيفا قوي بالواو في الضم وبالياء في الكسر.
(١) الارطاة: واحد الارط وهو شجر من شجر الرمل. والحقف: (بالكسر) ما اعوج من الرمل.
(٢) لسان العرب: ٥/ ٣٠٤.
(٣) الصحاح: ٦/ ٢٤٤٧.

صفحة رقم 95

قال سيبويه: يجيء بعد هاء المذكّر واو كما يجيء بعد هاء المؤنّث ألف. ومن ضمّ الهاء فعلى الأصل لأنّ أصل الهاء الضمّة مثل هو، وهما وهم، ومن كسر فقال لأنّ قبله ياء وإن كان محذوفا فلأنّ ما قبلها مكسور.
إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً: قرأ يحيى وثابت والأعمش وطلحة بكسر الدّال، والباقون بالضّم.
من ضمّ فهو من دام. يدوم، ومن لغة العالية. ومن كسر فله وجهان، قال بعضهم: هو أيضا من دام يدوم إلا أنّه على وزن فعل. يفعل، يقول دمت تدوم مثل مت. تموت، قاله الأخفش. وليس في الأفعال الثلاثيّة فعل- يفعل بكسر العين في الماضي وضمّها في الغابر من الصحيح الآخر فإنّ فضل. يفضل، ونعم. ينعم، ومن المعتلّ متّ. أموت ودمت. أدوم وهما لغة تميم.
قال أكثر العلماء: من كرام- يدام- فعل- يفعل مثل خاف- يخاف، وهاب يهاب.
قائِماً: قال ابن عبّاس: ملحا.
مجاهد: مواظبا. سعيد بن جبير: مرابطا. قتادة: قائما تقتضيه. السّدي: قائما على رأسه.
العتيبي: مواظبا بالاقتضاء وأصله إنّ المطالب للشيء يقوم فيه والتّارك له يقعد عنه، ودلالة قوله: أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي: عاملة بأمر الله غير تاركة.
أبو روق: يعترف بما دفعت إليه ما دمت قائما على رأسه، فإن سألته إيّاه في الوقت حينما تدفعه إليه يردّه عليك وإن أنظرته وأخّرته أنكر وذهب به وذلك الاستحلال والخيانة.
بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ: أي في حال العرب. نظيره هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «١»... سَبِيلٌ: إثم وحرج. دليله قوله: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «٢» وذلك إنّ اليهود قالوا لا حرج علينا في حبس أموال العرب قد أحلّها الله لنا لأنّهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلّون ظلم من خالفهم في دينهم يقولون لم يجعل الله لهم في كتابنا حرمة.
الكلبي: قالت اليهود إنّ الأموال كلّها كانت لنا فما كانت في أيدي العرب منها فهو لنا وإنّما ظلمونا وغصبونا ظلما فلا سبيل علينا في أخذنا إيّاه منهم.

(١) سورة الجمعة: ٢. [.....]
(٢) سورة التوبة: ٩١.

صفحة رقم 96

الحسن وابن جريج ومقاتل: بايع اليهود رجالا من المسلمين في الجاهلية فلمّا أسلموا تقاضوهم بقيمة أموالهم فقالوا: ليس لكم علينا حقّ ولا عندنا قضاء لكم تركتم الدّين الذي كنتم عليه وانقطع العهد بيننا وبينكم، وادّعوا إنّهم وجدوا ذلك في كتابهم فكذّبهم الله تعالى فقال:
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وفي الحديث: لما نزلت الآية قال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنّها موفاة «١» إلى البرّ والفاجر» «٢» [٦١].
وروى أبو إسحاق الهمداني عن صعصعة: إنّ رجلا سأل ابن عباس فقال: إنّا نصيب في الغزو من أموال أهل المدينة الدّجاجة أو الشاة قال ابن عبّاس: ويقولون ماذا قال: يقولون:
ليس علينا بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «٣» إنهم إذا أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ثمّ قال الله تعالى ردّا عليهم: بَلى: أي ليس كما قالوا ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ: الذي عاهد الله في التوراة من الإيمان بمحمّد والقرآن وأداء الأمانة.
والهاء في قوله بِعَهْدِهِ راجعة إلى الله عزّ وجلّ قد جرى ذكره في قوله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. ويجوز أن تكون عائدة إلى أَوْفى.
وَاتَّقى: من الكفر والخيانة ونقض العهد.
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ: من هذه صفته.
وعن الحسن: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاثة من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وزعم أنّه مؤمن، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» [٦٢] «٤».
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ائتمن على أمانة فأدّاها ولو شاء لم يؤدّها زوّجه الله من الحور العين ما شاء» [٦٣] «٥».
الحسن عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «التّاجر الصّدوق الأمين مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» [٦٤] «٦».
وهب عن حذيفة قال: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر،

(١) في المصدر: مؤداة.
(٢) فتح القدير: ١/ ٣٥٤، تفسير مجمع البيان: ٢/ ٣٢٧.
(٣) سورة آل عمران: ٧٥.
(٤) كنز العمال: ١/ ١٧١.
(٥) تفسير مجمع البيان: ٢/ ٣٢٧.
(٦) المستدرك: ٢/ ٦.

صفحة رقم 97

حدّثنا: «إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجّال، ونزل القرآن فتعلّموا من القرآن وتعلّموا من أصل السّنة» [٦٥] «١».
ثم حدّثنا عن رفعهما فقال: «ينام الرّجل النومة فينزع الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فتراه منتثرا وليس فيه شيء». ثم أخذ حذيفة حصاة فدحرجها على ساقه قال: فيصبح النّاس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتّى يقال له: فلان رجلا أمينا، وحتّى يقال للرّجل: ما أجلده، ما أعقله، وأظرفه وما في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان. ولقد أتى عليّ حين ولا أبالي أيّكم بايعت لئن كان مسلما ليردّن على إسلامه ولئن كان يهوديا أو نصرانيا ليردّن على ساعيه فأنا اليوم فما كنت لأبايع رجلا منكم إلّا فلانا وفلانا «٢».
وقيل: أكمل الدّيانة ترك الخيانة، وأعظم الجناية خيانة النّاس.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا: اختلفوا في نزول هذه الآية:
فقال عكرمة: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رئيس اليهود كتبوا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمّد صلى الله عليه وسلّم وبدّلوه وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا إنّه من عند الله لئلا يفوتهم الرّشى والمأكل التي كانت لهم على أتباعهم.
وقال الكلبي: إنّ ناسا من علماء اليهود أولي فاقة كانوا ذوي حظ من علم التوراة فأصابهم سنة. فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه فسألهم كعب: هل تعلمون أنّ هذا الرّجل رسول الله في كتابكم؟ فقالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا. قالوا: فإنّا نشهد إنّه عبد الله ورسوله، قال كعب: قد كذبتم عليّ فأنا أريد أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيرا كثيرا.
قالوا: فإنّه شبّه لنا. فرويدا حتى نلقاه. قال: فانطلقوا فكتبوا صفة سوى صفته، ثم أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلّم فكتموه ثم رجعوا إلى كعب، فقالوا: قد كنّا نرى رسول الله فأتيناه، فإذا هو ليس بالنعت الّذي نعت لنا وأخرجوا الّذي كتبوه. ففرح بذلك كعب، ومكرهم فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، نظيرها قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «٣» الآية.
وروى منصور بن أبي وائل قال: قال عبد الله: من حلف على عين يستحقّ بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان. فأنزل الله تعالى تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية.
وقال الأشعث بن قيس: فيّ نزلت، وكانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى

(١) غريب الحديث: ٤/ ١١٧- ١١٨ بتفاوت.
(٢) مسند أحمد: ٥/ ٣٨٣.
(٣) سورة البقرة: ١٧٤.

صفحة رقم 98

رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «شاهداك أو يمينه». فقلت: إنّه إذا يحلف ولا يبالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«من حلف على عين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» [٦٦] «١».
فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ... الآية.
وقال ابن جريج: إنّ الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أرض كانت في يده لذلك ليعزّره في الجاهلية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أقم بيّنتك؟». قال الرجل: ليس يشهد لي على الأشعث بن قيس أحد. قال: «لك يمينه» [٦٧]. فقام الأشعث وقال: أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فردّ إليه أرضه وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة مخافة أن يبقى في يده شيء من حقّه فهو لعقب ذلك الرجل من بعده «٢».
وروى بادان عن ابن عباس قال: نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي استعدى عليه عبدان بن أشرع فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحلف، فلمّا همّ أن يحلف نزلت هذه الآية. فامتنع امرئ القيس أن يحلف وأقرّ لعبدان بحقّه ودفعه إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لك عليها الجنّة.
وقال مجاهد والشعبي: أقام رجلا سلعته أوّل النّهار فلمّا كان آخره جاء رجل فساومه فحلف لقد منعها أوّل النّهار من كذا ولولا المساء لما باعها به. فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ: أي يستبدلون بعهد الله وإيفاء الأمانة وَأَيْمانِهِمْ الكاذبة ثَمَناً قَلِيلًا.
أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ: ونعيمها وثوابها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كلاما ينفعهم ويسرّهم. قاله المفسرون، وقال المفضل: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: بقبول حجّة يحتجّون بها.
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ: أي لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ولا يحسن إليهم ولا يكلمهم خيرا. يقال نظر فلان لفلان، ونظر إليه إذا رحمه وأحسن إليه.
قال الشاعر:
فقلت انظري ما أحسن النّاس كلّهم... لبني غلّة صدبان قد شفّه الوجد
وعن أبي عمرو الجوني قال: ما نظر الله إلى شيء إلا رحمه ولو قضى أن ينظر إلى [أهل] النّار لرحمهم، ولكن قضى أن لا ينظر إليهم.
روى عبد الله بن كعب عن أبي أمامة الخازني: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النّار وحرّم عليه الجنّة»، فقال رجل وإن كان شيئا يسيرا قال: «وإن كان قضيبا من أراك» [٦٨] «٣».

(١) صحيح البخاري: ٣/ ١٦٠ وفيه يمين يستحق بدل عين يستحق.
(٢) تفسير الطبري: ٣/ ٤٣٦.
(٣) مسند أحمد: ٥/ ٢٦٠.

صفحة رقم 99

وروى محمد بن زيد القرشي عن عبد الله بن أبي أمامة الخازني عن عبد الله بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس. والذي نفسي بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح بعوضة إلا كانت وكنة في قلبه إلى يوم القيامة»
[٦٩] «١».
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:
رجل على فضل ما بالطريق فمنع ابن السّبيل، ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلّا لم يف له، ورجل يساوم سلعته بعد العصر. فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدّقه الآخر وأخذها.
وروى الحارث الأعور عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم واليمين الفاجرة. فإنّها تدع الدّيار بلاقع من أهلها» [٧٠] «٢».
وروى معمّر في رجل من بني تميم عن أبي الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«اليمين الفاجرة تعقم الرحم» [٧١] «٣».
العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب» [٧٢] «٤».
وَإِنَّ مِنْهُمْ: يعني من أهل الكتاب الذين تقدّم ذكرهم وهم اليهود.
لَفَرِيقاً: طائفة وهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصّف، وحيي بن الأخطب، وأبو ياسر وحيي وسبعة بن عمرو الشاعر.
يَلْوُونَ: قرأ أهل المدينة يُلَوُّونَ مضمومة الياء مفتوحة اللام مشدّدة الواو على التكثير.
وقرأ حميد: يلون بواو واحدة على نية الهمز، ثم ترك الهمزة ونقل حركتها إلى اللام.
وقرأ الباقون بواوين ولام ساكنة مخففة ومعناها جميعا يعطفون أَلْسِنَتَهُمْ: بالتحريف المتعنّت وهو ما غيّروا من صفة محمد صلى الله عليه وسلّم وآية الرّجم. يقال: لوى لسانه عن كذا أي غيّره، ولوى الشيء عمّا كان عليه إذا غيّره إلى غيره، ولوى فلانا عن رأيه، إذا أماله عنه، ومنه: ليّ الغريم، قال النابغة الجعدي:

(١) مسند أحمد: ٣/ ٤٩٥. [.....]
(٢) كنز العمال: ١٦/ ٩٦ ح ٤٤٠٥٢.
(٣) كنز العمال: ١٦/ ٦٩٦ ح ٤٦٣٨٠.
(٤) شرح مسلم: ٢/ ١٢٦.

صفحة رقم 100

لوى الله علم الغيب عم سواءه... ويعلم منه ما مضى وتأخرا «١»
ونظيره قوله: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا... الآية.
لِتَحْسَبُوهُ: لتظنّوا ما حرّفوا مِنَ الْكِتابِ: الذي أنزله الله.
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ... وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ: إنّهم كاذبون.
وروى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: إنّ الآية نزلت في اليهود والنّصارى جميعا والذين هم حرّفوا التوراة والإنجيل، وضربوا كتاب الله بعضه ببعض وألحقوا به ما ليس منه فأسقطوا منه الدين الحنفي، فبيّن الله تعالى كذبهم للمؤمنين.
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ الآية.
قال الضحّاك ومقاتل: ما كانَ لِبَشَرٍ يعني عيسى (عليه السلام) أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ يؤتى الحكمة. نزلت في نصارى أهل نجران.
وقال ابن عباس وعطاء: ما كانَ لِبَشَرٍ يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ: يعني القرآن وذلك
أنّ أبا رافع القرظي من اليهود والرئيس من نصارى أهل نجران قالا: يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» [٧٣] «٢». فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الحسن: بلغني أنّ رجلا قال: يا رسول الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحق لأهله» [٧٤] «٣». فأنزل الله ما كانَ لِبَشَرٍ: يعني ما ينبغي لبشر
، كقوله وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً «٤» وكقوله ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا «٥» : يعني ما ينبغي.
وقال أهل المعاني: هذه اللام منقولة وأن بمعنى اللام، وتقدير الآية: ما كان لبشر ليقول ذلك. نظير قوله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «٦» : أي ما كان الله ليتخذ ولدا وقوله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «٧» أي ما كان لنبىّ ليغلّ. والبشر جميع بني آدم لا واحد من لفظه: كالقوم والجيش، ويوضع موضع الواحد والجمع.

(١) لسان العرب: ١٤/ ٤١٣.
(٢) تفسير الطبري: ٣/ ٤٤١.
(٣) أسباب نزول الآيات: ٧٤، تفسير مجمع البيان: ٢/ ٣٣١.
(٤) سورة النساء: ٩٢.
(٥) سورة النور: ١٦.
(٦) سورة مريم: ٣٥.
(٧) سورة آل عمران: ١٦١.

صفحة رقم 101

أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ: يعني الفهم والعلم، وقيل أيضا الأحكام عن الله تعالى، نظير قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ «١».
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: نصب على العطف، وروى محبوب عن أبي عمرو: ثمّ يقولُ بالرفع على الاستئناف.
كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ: قال ابن عباس: هذه لغة مزينة تقول للعبيد عباد.
وَلكِنْ كُونُوا: أي ولكن يقول كونوا، فحذف القول.
رَبَّانِيِّينَ: اختلفوا فيه:
فقال عليّ وابن عباس والحسن والضحّاك: كونوا فقهاء علماء.
مجاهد: فقهاء وهم دون الأحبار. أبو رزين وقتادة والسّدّي: حكماء علماء، وهي رواية عطية عن ابن عباس. وروى سعيد بن جبير عنه: فقهاء معلّمين.
وقال مرّة بن شرحبيل: كان علقمة من الرّبانيّين الذين يعلّمون النّاس القرآن.
وروى الفضل بن عياض عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: حكماء أتقياء.
ابن زيد: ولاة النّاس، وقادتهم بعضهم متعبدين مخلصين.
عطاء: علماء حكماء نصبا لله في خلقه. أبو عبيد: لم يعرف العرب الرّبانيّين.
أبو [عبيد] : سمعت رجلا عالما يقول: الرّباني: العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي.
العارف بأنباء الأمّة وما كان وما يكون.
المؤرّخ: كونوا ربّانيّين تدينون لربّكم، كأنّه فعلاني من الربوبية.
وقال بعضهم: كان في الأصل ربّي، فأدخلت الألف للتضخيم وهو لسان السريّانية، ثم أدخلت النون لسكون الألف كما قيل: صنعاني وبحراني وداراني.
المبّرد: الرّبانيون: أرباب العلم واحدها ربّان وهو الذي يرث العلم ويربّب النّاس أي يعلّمهم ويصلحهم فيقوم بأمرهم، والألف والنون للمبالغة. كما قالوا: ريّان وعطشان وشبعان وغوثان ونعسان من النّعاس ووسنان ثم ضمّ إليه ياء النسبة كما قيل. وقال الشاعر:

لو كنت مرتهنا في الحقّ أنزلني منه الحديث وربّاني أحباري «٢»
وقد جمع علي (رضي الله عنه) هذه الأقاويل أجمع فقال: هو الّذي يربى علمه بعمله.
وقال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس: مات ربّاني هذه الأمّة.
(١) سورة الأنعام: ٨٩.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٢٢.

صفحة رقم 102

بِما كُنْتُمْ: معناه الوجوب أي: بما أنتم. كقوله وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً «١» : أي وامرأتي، وقوله مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «٢» أي من هو في المهد صبيّا.
تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ: قرأ السلمي والنخعي وابن جبير والضحّاك وأهل الكوفة: تُعَلِّمُونَ بالتشديد من التعليم، واختاره أبو عبيدة، وقرأ الباقون تعلمون بالتخفيف من العلم، واختاره أبو حاتم، وقال أبو عمرو: وتصديقها وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فلم يقل يدرسون وقرأ الحسن تُعَلِّمُونَ، التاء والعين وتشديد اللام على معنى تعلمون، وقرأ أبو عبيدة: تُدْرِسُونَ من أدرس يدرس. وقرأ سعيد بن جبير: تُدَرِّسُونَ من التدريس. الباقون: يدرسون من الدرس أي يقرءون، نظيره في سورة الأعراف وَدَرَسُوا ما فِيهِ «٣».
جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حرّ ولا عبد مملوك إلّا ولله عزّ وجلّ عليه حقّ واجب أن يتعلّم من القرآن ويتفقّه فيه، ثم تلا هذه الآية وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» «٤».
وَلا يَأْمُرَكُمْ: قرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة: وَلا يَأْمُرَكُمْ بالنصب عطفا على قوله ثُمَّ يَقُولَ.
وقيل: على إضمار أنّ وهو على هذه القراءة مردود على البشر. وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف والانقطاع من الكلام الأوّل، يدلّ عليه قراءة عبد الله وطلحة ولن يأمركم ثمّ اختلفوا فيه، فقرأ الأكثر على معناه وَلا يَأْمُرَكُمْ الله. وقال ابن جريح: وَلا يَأْمُرَكُمْ محمد عليه الصّلاة والسّلام، وقيل: وَلا يَأْمُرَكُمْ البشر.
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً: كقول قريش وبني مليح حيث قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود والنّصارى حيث قالوا في المسيح وعزير ما قالوا.
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: على ظهر التعجّب والإنكار، يعني: لا يفعل هذا.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، قرأ سعيد بن جبير لَمَّا بتشديد الميم، وقرأ يحيى بن رئاب والأعمش وحمزة والكسائي بجرّ اللام وتخفيف الميم.
وأما الباقون: بفتح اللام وتخفيف الميم، فمن فتح اللام وخفّف الميم فقال الأخفش: هي

(١) سورة مريم: ٥.
(٢) سورة مريم: ٢٩. [.....]
(٣) سورة الأعراف: ١٦٩.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ١٢٢.

صفحة رقم 103

لام الابتداء أدخلت على ما الخبر كقول القائل: لزيد أفضل منك، وما آتيتكم والذي بعده صلة له وجوابه في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ فإن شئت جعلت خبر ما. من كتاب الله. وتقول من زائدة معناها: لما آتيتكم كتاب وحكمة، ثم ابتدأ فقال: ثُمَّ يعني: ثم يجيئكم، وإن شئت قلت: ثم أن جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ: اللام لام القسم تقديره: والله لتؤمننّ به. فأكّد في أول الكلام بلام التأكيد، وفي آخر الكلام بلام القسم.
وقال الفرّاء: من فتح اللام جعلها لاما زائدة لقوله: اليمين إذا وقعت على جملة صيّرت فعل ذلك الجزاء على هيئة فعل، وصيّرت جوابه كجواب اليمين، والمعنى: أي كتاب آتيتكم ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به، للّام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ.
وقال المبرّد والزجّاج: هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء كما تدخل على أن، ومعناه: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، اللام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جواب الجزاء كقوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ «١» ونحوه.
وقال الكسائي: لَتُؤْمِنُنَّ: متصل بالكلام الأول وجواب الجزاء في قوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ، ومن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الذي، ومعناه: الذي آتيتكم يعني: أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي أمامهم من كتاب وحكمة ثم أن جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ من بعد الميثاق لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف، وهو كما نقول في الكلام أخذت ميثاقك لتفعلن كذا وكذا كأنك قلت: استحلفتك لتفعلن.
وقال صاحب النظم: من كسر اللام فهو بمعنى بعد يعني: بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة، كقول النابغة:

توهّمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع «٢»
أي: بعد ستة أعوام، ومن شدد الميم فمعناه: حين آتيتكم لقوله تعالى آتَيْتُكُمْ.
قرأ أهل الكوفة: آتيناكم على التعظيم، وقرأ الآخرون: آتَيْتُكُمْ على التفريد، وهو الاختيار لموافقة الخط كقوله: وَأَنَا مَعَكُمْ «٣» والقول مثمر في الآية على الأوجه الثلاثة تقديرها: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ).
واختلف المفسّرون في معنى هذه الآية، فقال قوم: إنّما أخذ الميثاق على الأنبياء أن
(١) سورة الإسراء: ٨٦.
(٢) لسان العرب: ٤/ ٥٦٩.
(٣) سورة آل عمران: ٨١.

صفحة رقم 104

يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، فذلك معنى آخر بالتصديق، وهذا قول سعيد بن جبير وطاوس وقتادة والحسن والسدّي، يدل عليه ظاهر الآية،
وقال علي (رضي الله عنه) : لم يبعث الله نبيا. آدم ومن بعده. إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بأخذ العهد على قومه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه
، وقال آخرون: إنّما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين، وهو قول مجاهد والربيع.
قال مجاهد: هذا خلط من الكتاب وهو من قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، قالوا: ألا ترى إلى قوله ثم جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وإنّما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين.
وقال بعضهم: إنّما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم [ليؤمنن به]، ففرد الأنبياء عن ذكر الأمم لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على الأتباع، وهذا معنى قول ابن عباس وهذا أولى بالصواب.
قال الله: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي وقبلتم على ذلك عهدي، نظير قوله تعالى: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ «١» أي فاقبلوه، وقوله تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي لا يقبل منها فداء، وقوله: يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يقبلها، قالُوا أَقْرَرْنا.
قال الله: فَاشْهَدُوا على أنفسكم وعلى أتباعكم وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عليكم وعليهم.
قال ابن عباس: فَاشْهَدُوا: يعني فاعلموا، قال الزجّاج: فَاشْهَدُوا أي فبيّنوا لأن الشاهد هو الذي عين دعوى المدّعى، وشهادة الله للنبيين بيّنوا أمر نبوتهم بالآيات والمعجزات، وقال سعيد بن المسيب: قال الله تعالى للملائكة: فَاشْهَدُوا عليهم، فتكون كناية عن غير مذكور.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الإقرار والإشهاد فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ العاصون، الخارجون عن الإيمان.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الآية.
قال ابن عباس: اختصم أهل الكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم (عليه السلام) كل فرقة زعمت أنّه أولى بدينه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
وهو قراءة الحسن وحميد ويعقوب وسلام وسهل وصفوان بالياء لقوله: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ

(١) سورة المائدة: ٤١.

صفحة رقم 105

، وقرأ أبو عمرو: يَبْغُونَ بالياء وترجعون بالتاء، قال: لأن الأول خاص والثاني عام ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى، وقرأ الباقون: بالتاء فيهما على الخطاب لقوله: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ.
وَلَهُ أَسْلَمَ خضع وانقاد من في السموات والأرض طَوْعاً والطوع الانقياد والاتباع بسهولة من قولهم: فرس طوع العنان، أي منقاد وَكَرْهاً والكره: ما كان بمشقة وإباء من النفس، كرها بضم الكاف وهما مصدران وضعا موضع الحال، كأنّه قال: وله أسلم من في السموات والأرض طائعين وكارهين، واختلفوا في قوله طَوْعاً وَكَرْهاً،
فروى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً قال: «الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض» [٧٥] «١».
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا أصحابي فإنّ أصحابي أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف السيف» [٧٦] «٢».
وقال الحسن والمفضّل: الطوع لأهل السموات خاصة، وأهل الأرض منهم من أسلم طوعا ومنهم من أسلم كرها.
ابن عباس: عبادتهم لله أجمعين طوعا وكرها وانقيادا له.
الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً قال: كل بني آدم أقرّ على نفسه أنّ الله ربّي وأنا عبده، فهذا الإسلام لو استقام عليه، فلمّا تكلّم به صار حجة عليه، ثم أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومنهم من شهد أنّ الله ربّي وأنا عبده، ثم أخلص العبودية فهذا الذي أسلم طوعا، وقال الضحّاك: هذا حين أخذ منه الميثاق وأقرّ به.
مجاهد: طَوْعاً: ظل المؤمن وَكَرْهاً: ظل الكافر، يدلّ عليه قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «٣»، وقوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ «٤».
الشعبي: هو استعاذتهم به عند اضطرارهم، يدلّ عليه قوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «٥».

(١) الدر المنثور: ٢/ ٤٨.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٢٨.
(٣) سورة الرعد: ١٥.
(٤) سورة النحل: ٤٨.
(٥) سورة العنكبوت: ٦٥.

صفحة رقم 106
الكشف والبيان عن تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أو الثعالبي
راجعه
نظير الساعدي
الناشر
دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان
سنة النشر
1422 - 2002
الطبعة
الأولى 1422، ه - 2002 م
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية