
الشُّرُوطِ وَبَقِيَّةَ السِّيَاقِ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ وُفُودَهُمْ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ قَالَ: كَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ أَوَّلَ مَنْ أَدَّى الْجِزْيَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآيَةُ الْجِزْيَةِ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: ٢٩]، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ المكي، حدثنا بشر بن مهران حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَاقِبُ والطيب، فدعاهما إلى الملاعنة فواعده عَلَى أَنْ يُلَاعِنَاهُ الْغَدَاةَ، قَالَ: فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا، فأبيا أن يجيبا وأقرا له بِالْخَرَاجِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ قَالَا: لَا، لَأَمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَارًا» قَالَ جَابِرٌ، وفيهم نَزَلَتْ نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ قال جابر أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وأَبْناءَنا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَنِساءَنا فَاطِمَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ الْأَزْهَرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ بِمَعْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ هَكَذَا قَالَ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا، وَهَذَا أَصَحُّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ نَحْوُ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي شَأْنِ عِيسَى هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ وَلَا مَحِيدَ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ عَنْ هَذَا إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أَيْ مَنْ عَدَلَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ فَهُوَ الْمُفْسِدُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِهِ، وَسَيَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ شَرَّ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ حُلُولِ نقمته.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٤]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
هَذَا الْخِطَابُ يَعُمُّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ، كَمَا قَالَ هَاهُنَا، ثُمَّ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَيْ عَدْلٌ وَنَصَفٌ نَسْتَوِي نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً لَا وَثَنًا ولا صليبا ولا صنما وَلَا طَاغُوتًا وَلَا نَارًا وَلَا شَيْئًا، بَلْ نُفْرِدُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذِهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٥] وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦] ثم قال تعالى وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا

بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
، قال ابْنُ جُرَيْجٍ: يَعْنِي يُطِيعُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِي معصية الله، وقال عكرمة: يَسْجُدُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ هَذَا النَّصَفِ وَهَذِهِ الدَّعْوَةِ، فَأَشْهِدُوهُمْ أَنْتُمْ عَلَى اسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّتِهِ حِينَ دخل على قيصر، فسأله عَنْ نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْجَلِيَّةِ، مَعَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا، لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَبْلَ الْفَتْحِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الحديث، ولأنه لما سأله: هَلْ يَغْدِرُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةً أَزِيدُ فِيهَا شَيْئًا سِوَى هَذِهِ، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ قَالَ:
ثُمَّ جِيءَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيين «١» ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا، نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُمْ أَوَّلُ مَنْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ كِتَابَةِ هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ إِلَى هِرَقْلَ فِي جُمْلَةِ الْكِتَابِ، وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالزُّهْرِيُّ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ [أَحَدُهَا] يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَرَّةً بَعْدَ الْفَتْحِ. [الثَّانِي] يُحْتَمَلُ أَنْ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، نَزَلَ فِي وَفْدِ نجران إلى هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ، نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً، لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ لِدَلَالَةِ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ. [الثَّالِثُ] يُحْتَمَلُ أَنَّ قُدُومَ وَفْدِ نَجْرَانَ، كَانَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ الَّذِي بَذَلُوهُ مُصَالَحَةً عَنِ الْمُبَاهَلَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ، بَلْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُهَادَنَةِ وَالْمُصَالَحَةِ، وَوَافَقَ نُزُولَ آيَةِ الْجِزْيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، كما جاء فرض الخمس والأربعة أخماس وَفْقَ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فِي تِلْكَ السَّرِيَّةِ قَبْلَ بَدْرٍ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الْقَسَمِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ. [الرَّابِعُ] يُحْتَمَلُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمر بكتب هذا فِي كِتَابِهِ إِلَى هِرَقْلَ، لَمْ يَكُنْ أُنْزِلَ بعد، ثم أنزل القرآن موافقة له صلّى الله عليه وسلّم، كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب فِي الْحِجَابِ وَفِي الْأُسَارَى، وَفِي عَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الْبَقَرَةِ: ١٢٥] وَفِي قَوْلِهِ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ