آيات من القرآن الكريم

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
ﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨ

مثل هذا التخيل كما لا يخفى، وفي جواب هذه الظاهرة ليوسف النجار ما يؤيد ما قلناه،
فقد أخرج إسحق بن بشر.
وابن عساكر عن وهب أنه قال: لما استقر حمل مريم وبشرها جبريل وثقت بكرامة الله تعالى واطمأنت وطابت نفسا، وأول من اطلع على حملها ابن خال لها يقال له يوسف، واهتم لذلك وأحزنه وخشي البلية منه لأنه كان يخدمها فلما رأى تغير لونها وكبر بطنها عظم عليه ذلك فقال معرضا لها: هل يكون زرع من غير بذر؟! قالت: نعم قال: وكيف يكون ذلك قال: إن الله تعالى خلق البذر أول من غير نبات وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر؟ ولعلك تقول: لولا أن استعان الله تعالى عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته؟ قال يوسف أعوذ بالله أن أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكم، وكما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر أن يجعل زرعا من غير بذر فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: ألم تعلم أن للبذر.
والماء. والمطر. والشجر خالقا واحدا فلعلك تقول لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر؟ قال أعوذ بالله تعالى أن أقول ذلك قد صدقت فأخبريني خبرك قالت: بشرني الله تعالى بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إلى قوله تعالى: وَمِنَ الصَّالِحِينَ فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله تعالى لسبب خير أراده بمريم فسكت عنها فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق فنوديت أن اخرجي من المحراب فخرجت.
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ عطف على يُبَشِّرُكِ أي إن الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة الْكِتابَ ولا يرد عليه طول الفصل لأنه اعتراض لا يضر مثله، أو على- يخلق- أي كذلك الله يخلق ما يشاء وَيُعَلِّمُهُ أو على- يكلم فتكون في محل نصب على الحال والتقدير- يبشرك بكلمة مكلما الناس ومعلما الكتاب- أو على وَجِيهاً وجوز أن تكون جملة مستأنفة ليست داخلة في حيز قول الملائكة عليهم السلام، والواو- تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة- كما قال الشهاب- إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستأنفة سابقة وهي وَإِذْ قالَتِ إلخ ولا إلى مقدرة، ولا إشكال في العطف كما قال النحرير، وكذا لا يدعي أن الواو زائدة كما قال أبو حيان، فهذه أوجه من الإعراب مختلفة بالأولوية، وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة نُوحِيهِ إِلَيْكَ بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه، والْكِتابَ

صفحة رقم 159

مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد- قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج،
وروي عنه أنه قال: أعطى الله تعالى عيسى عليه السلام تسعة أجزاء من الخط وأعطى سائر الناس جزءا واحدا،
وذهب أبو علي الجبائي إلى أن المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره، وذهب كثيرون إلى أن- أل- فيه للجنس والمراد جنس الكتب الإلهية إلا أن المأثور هو الأول، والقول- بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والإنجيل، وتجعل الواو فيما بعد زائدة مقحمة وما بعدها بدلا أو عطف بيان- من الهذيان بمكان.
وقرأ أهل المدينة، وعاصم، ويعقوب، وسهل- ويعلمه- بالياء، والباقون بالنون قيل: وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول أي إن الله- يبشرك بعيسى- ويقول: يُعَلِّمُهُ أو وجيها ومقولا فيه نعلمه الكتاب وَالْحِكْمَةَ أي الفقه وعلم الحلال والحرام- قال ابن عباس- وقيل: جميع ما علمه من أمور الدين، وقيل: سنن الأنبياء عليهم السلام، وقيل: الصواب في القول والعمل، وقيل: إتقان العلوم العقلية، وقد تقدم الكلام على ذلك وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أفردا بالذكر على تقدير أن يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما، وتعليمه ذلك قيل: بالإلهام، وقيل: بالوحي، وقيل: بالتوفيق والهداية للتعلم، وقد صح أنه عليه السلام لما رعرع- وفي رواية الضحاك عن ابن عباس- لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى المعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئا عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة، وذلك يؤيد أن علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية، وذكر- الإنجيل- لكونه كان معلوما عند الأنبياء والعلماء متحققا لديهم أنه سينزل وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ منصوب بمضمر يجر إليه المعنى معطوفا على نعلمه أي ونجعله رسولا- وهو الذي اختاره أبو حيان- وقيل: إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على- يعلمه- أي ويقول عيسى أرسلت رسولا، ولا يخفى أن عطف هذا القول على يُعَلِّمُهُ إذا كان مستأنفا مما ليس فيه كثير بأس، وأما على تقدير عطفه على يُبَشِّرُكِ أو يَخْلُقُ فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير- إن الله يبشرك- أو إن الله يخلق ما يشاء- ويقول عيسى كذا، وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظيم، وفي البحر: إن هذا الوجه مطلقا ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة، واختار بعضهم عطفه على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه- وجيها- وَرَسُولًا ناطقا بكذا، والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور، وفعول هنا بمعنى مفعل، واحتمال- أن يكون مصدرا كما قال أبو البقاء مثله في قول الشاعر: أبلغ أبا سلمى رَسُولًا تروعه ويجعل معطوفا فاعلي الْكِتابَ أي ويعلمه رسالة- بعيد لفظا ومعنى، أما الأول فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية، وأما ثانيا فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم، والظرف إما متعلق- برسولا- أو بمحذوف وقع صفة له أي- رسولا كائنا إلى بني إسرائيل أي كلهم، قيل: وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم.
ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد- وليس ذلك في الكتب المشهورة- والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان: فرقة ترميه- وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها- وهم أكثر اليهود، وفرقة يقال لهم العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون: إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها، وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام، ومن بني إسرائيل المتعبدين

صفحة رقم 160

وليس برسول ولا نبي، ويقولون: إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولا ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آخرا ولم يعرفوا مرامه ومغزاه، نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية- أصحاب أبي عيسى إسحق بن يعقوب الأصفهاني الذي يسميه بعضهم بعرقيد الوهيم- يزعمون: إن لله تعالى رسولا بعد موسى عليه السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد وأن صاحبهم هذا أحد رسله- وكل من هذه الأقوال بعيد- عما ادعاه صاحب القيل بمراحل- ولعله وجد ما يوافق دعواه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
هذا واختلف في زمن رسالته عليه السلام فقيل: في الصبا وهو ابن ثلاث سنين. وفي البحر: أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين قيل: وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور، وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف. وقيل: موسى وآخرهم عيسى- على سائرهم أفضل الصلاة وأكمل السلام- وقرأ اليزيدي- ورسول- بالجر على أنه معطوف على كلمة- أي يبشرك بكلمة وبرسول- أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ معمول- لرسولا- لما فيه من معنى النطق. وجوز أبو البقاء كونه معمولا لمحذوف وقع صفة- لرسولا- أي رسولا ناطقا. أو مخبرا بأني. وكونه بدلا من رَسُولًا إذا جعلته مصدرا أي ونعلمه أنى قد جئتكم، أو خبرا لمبتدأ محذوف على تقدير المصدرية أيضا أي هو أني، فالمنسبك إما في محل جر. أو نصب. أو رفع، وقوله تعالى:
بِآيَةٍ في موضع الحال أي محتجا أو متلبسا بآية أو متعلق- بجئتكم- والباء للملابسة أو للتعدية، والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور ما ينافيها، وقرئ بآيات مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة- لآية- وجوز تعلقه بجئت، ومِنْ في التقديرين لابتداء الغاية مجازا، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال لما سيأتي من الأوامر، أو لأن وصف الربوبية يناسب حال الإرسال إليهم، وقوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بدل من قوله سبحانه: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو من آية أو منصوب على المفعولية لمحذوف أي أعني، أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أي هي أَنِّي إلخ وقرأ نافع «إني» بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم كما يشير إليه ذكر المادة، والهيئة مصدر بمعنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق، وقيل: إنها اسم لحال الشيء وليست مصدرا وإنما المصدر الهيء والتهيؤ فهي على الأول جوهر وعلى الثاني عرض، وفسروها بالكيفية الحاصلة- من إحاطة الحد الواحد أو الحدود- بالجسم، والمعنى أنى أقدر- لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي- من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته. والكاف إما اسم- كما ذهب إليه أبو الحسن- في موضع نصب على المفعولية- لأخلق- أو نعت لمفعول محذوف له، وإما حرف- كما ذهب إليه الجمهور- فتتعلق بمحذوف وقع نعتا أيضا لما وقع هو نعتا له على تقدير الاسمية. وقرأ يزيد وحمزة- كهية- بتشديد الياء. وكان ابن المقسم يقول: بلغني أن خلفا يقول: إن حمزة يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. وقرأ أهل المدينة ويعقوب- الطائر- ومثله في المائدة فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للهيئة المقدرة في نظم الكلام لكن بمعنى الشيء المهيأ لا بمعنى العرض القائم به إذ لا يصح أن يكون ذلك محلا للنفخ. وذكر الضمير هنا مراعاة للمعنى كما أنث في المائدة مراعاة للفظ قيل: وصح هذا لعدم الإلباس، ووقع في كلام غير واحد كون الضمير للكاف بناء على أنها اسم. ويعود ذلك في الحقيقة إلى عود الضمير إلى الموصوف بها. واعترضه ابن هشام بأنه لو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت- بكالأسد- وبعضهم بأن عود الضمير إليها غير معهود. وقرئ- فيها- فَيَكُونُ طَيْراً حيا طيارا كسائر الطيور.
وقرأ المفضل- فتكون- بتاء التأنيث، ويعقوب، وأبو جعفر، ونافع- طائرا- بِإِذْنِ اللَّهِ متعلق- بيكون- أو-

صفحة رقم 161

بطيرا- والمراد بأمر الله، وأشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ، وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليه السلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليه السلام وهو روح محض- كما قيل- بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء، قيل: وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب، واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا؟ فذهب المعظم إلى الأول قالوا: إن بني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جريا على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشا فلما فعل قالوا: ساحر وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا، ويحيض، ويلد، ويطير بغير ريش، وله آذان، وثدي، وضرع، ويخرج منه اللبن، ويرى ضاحكا كما يضحك الإنسان، ولا يبصر في ضور النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش، وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة، وقيل: خلق أنواعا من الطير.
وذهب بعضهم إلى الثاني
فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق أن عيسى عليه السلام جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا: أو تستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: كن طائرا بإذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه، وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ عطف على أَخْلُقُ فهو داخل في حيز أَنِّي والْأَكْمَهَ هو الذي ولد أعمى أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة، قيل: ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير، وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وعن عكرمة أنه الأعمش أي أخلص الْأَكْمَهَ من الكمه وَالْأَبْرَصَ وهو الذي به الوضح المعروف وتخصيص هذين الأمرين لأنهما أمران معضلان أعجزا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه، ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليه السلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر، والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البلاغة، والاقتصار على هذين الأمرين لا يدل على نفي ما عداهما
لقد روى أنه عليه السلام أبرأ أيضا غيرهما،
وروى عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام فمشى إليه، وكان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الإيمان وكان دعاؤه الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم «اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيء قدير»
ومن خواص هذا الدعاء- كما قال وهب- أنه إذا قرئ على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى- وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ عطف على خبر أَنِّي وقيد الأحياء بالاذن كما فعل في الأول لأنه خارق عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه- يا حي يا قيوم-
وخبر «إنه كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى تبارك الذي بيده الملك، وفي الثانية تنزيل السجدة فإذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم

صفحة رقم 162

دعا بسبعة أسماء: يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد»
قال البيهقي: ليس بالقوي، وقيل: إنه كان إذا أراد أن يحيي ميتا ضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة فيحيا بإذن الله تعالى ويكلمه ويموت سريعا.
وأخرج محيي السنة عن ابن عباس أنه قال: قد أحيا عليه السلام أربعة أنفس: عازر، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح. فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك عازر مات وكان بينه وبين عازر مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لاخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى عيسى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي زمانا وولد له.
وأما ابن العجوز فمر به ميتا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله تعالى عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي زمانا وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى وأحياها وبقيت زمانا وولد لها.
وأما سام بن نوح فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعى باسم الله تعالى الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: أقد قامت الساعة؟ قال: لا ولكن دعوتك باسم الله تعالى الأعظم ثم قال له: مت قال: بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى له ففعل، وفي بعض الآثار أن إحياءه ساما كان بعد قولهم له عليه السلام إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت ولعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فأحياه وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا: هذا سحر فأرنا آية فنبأهم بما يأكلون وما يدخرون، وقد ورد أيضا أنه عليه السلام أحيا ابن ملك ليستخلفه في قصة طويلة، وأحيا خشفا وشاة وبقرة
ولفظ الْمَوْتى يعم كل ذلك.
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ «ما» في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف- أي تأكلونه وتدخرونه- والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع والادخار- الخبء- وأصل تَدَّخِرُونَ تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت، ومن العرب من يقلب التاء دالا ويدغم، وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه السلام على ما في بعض الأخبار، وقيل: قبل،
فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان عيسى عليه السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم فيقول: خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي فتقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا فتقول: من أخبرك؟! فيقول: عيسى ابن مريم فقالوا: والله لأن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم فقال: ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان؟ قالوا: لا إنما هي قردة وخنازير قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك،
وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ من المائدة وَما تَدَّخِرُونَ منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فجعلوا قردة وخنازير، ويمكن أن يقال: إن كل ذلك قد وقع- وعلى سائر التقادير- فالمراد الأخبار بخصوصية هذين الأمرين كما يشعر به الظاهر، وقيل: المراد الأخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة، والسر في ذكر هذين الأمرين بخصوصهما أن غالب سعي الإنسان وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس فليفهم.

صفحة رقم 163

وقرئ- «تذخرون» - بالذال المعجمة والتخفيف إِنَّ فِي ذلِكَ أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة، وهذا من كلام عيسى عليه السلام حكاه الله تعالى عنه، وقيل: هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ لَآيَةً أي جنسها، وقرئ لآيات لَكُمْ دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الأطباء والمنجمون.
ومن هنا يعلم أن علم الجفر، وعلم الفلك، ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها: إنها علم غيب أبدا إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجردا عن المواد والوسائط الكونية وهذه العلوم ليست كذلك لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الالهية والمنحة الأزلية على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد. وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان. ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين. وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى: بِآيَةٍ أي قد جئتكم محتجا، أو متلبسا بِآيَةٍ إلخ وَمُصَدِّقاً لِما إلخ، وإما على رَسُولًا وفيه معنى النطق مثله، وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه قَدْ جِئْتُكُمْ أي وجئتكم مصدقا إلخ. وقوله سبحانه: مِنَ التَّوْراةِ في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل، ويجوز أن يكون حالا من «ما» فيكون العامل فيه مُصَدِّقاً ومعنى تصديقه عليه السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب. وقيل: إن تصديقه لها مجيئه رَسُولًا طبق ما بشرت به وَلِأُحِلَّ لَكُمْ معمول لمقدر بعد الواو أي- وجئتكم لأحل- فهو من عطف الجملة على الجملة، أو معطوف على بِآيَةٍ من قوله سبحانه: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ لأنه في معنى- لأظهر لكم آية ولأحل- فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به، أو معطوف على مُصَدِّقاً ويلتزم التأويل بما يجعلهما من باب واحد، وإن كان الأول حالا، والثاني مفعولا له فكأنه قيل: جئتكم لأصدق ولأحل، وقيل: لا بد من تقدير- جئتكم- فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر.
بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أي في شريعة موسى عليه السلام.
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير ما لا صيصية له، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وهذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض، وذهب بعضهم إلى أن الإنجيل لم يخص أحكاما ولا حوى حلالا وحراما ولكنه رموز، وأمثال، ومواعظ، وزواجر، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة، وإلى أن عيسى عليه السلام لم ينسخ شيئا مما في التوراة، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس، ويحرم لحم الخنزير، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم

صفحة رقم 164

الأسبوع، ومبدأ الفيض، وصلوا نحو المشرق لما تقدم، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الالهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في إنجيله أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعا كبيرا وقال لتلامذته: لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء، وفيها صور الحيوانات، وصورة الخنزير، وقيل له: يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه، والذاهبون إليه أولوا الآية بأن المراد ما حرمه علماؤهم تشهيا أو خطأ في الاجتهاد، واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه السلام قال في الإنجيل: ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها، ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه، ويزيده بعدا أنه قرئ- «حرّم» - بالبناء للفاعل وهو ضمير ما بَيْنَ يَدَيَّ أو الله تعالى، وقرئ أيضا- «حرم» - بوزن كرم، وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان لانتهاء الحكم الأول، ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه السلام- على ما قيل- أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان، وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للأولين لا عليهم، ولعل ما ذهبوا إليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الكلام فيه كالكلام في نظيره، وقرئ- بآيات- فَاتَّقُوا اللَّهَ في عدم قبول ما جئتكم به وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأنهاكم بأمر الله تعالى إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ بيان للآية المأتي بها على معنى هي قولي: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ. ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس اليه كان آية دالة على رسالته، وليس المراد بالآية على هذا المعجزة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزة كان هذا القول لكونه طريقة الأنبياء عليهم السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس، وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر، ويقال: إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من أعظم المعجزات وخوارق العادات.
أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث إليكم فإذا قال: أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من أعظم الخوارق، وقرئ- «أن الله» - بفتح همزة- أن- على أن المنسبك بدل من آية أو أن المعنى جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ دالة على أن الله إلخ، ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضا لكن بتقدير القول، وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ اعتراضا، وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة جِئْتُكُمْ الأولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي أو للاستيعاب كقوله تعالى: «فارجع البصر كرتين» (١) أي جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير، وإبراء الأكمه، والأبرص، والأحياء، والإنباء بالمخفيات، ومن ولادتي بغير أب. ومن كلامي في المهد ونحو ذلك، والكلام الأول لتمهيد الحجة عليهم، والثاني لتقريبها إلى الحكم وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جيء بالفاء في فَاتَّقُوا اللَّهَ كأنه قيل: لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات فَاتَّقُوا اللَّهَ إلخ، وعلى هذا يكون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ إلخ ابتداء كلام

(١) كذا في المصدر، والقراءة في مصاحفنا ثُمَّ ارْجِعِ...

صفحة رقم 165

وشروعا في الدعوة المشار إليها بقول مجمل، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ
إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر- لأن الله- ربي وربكم فاعبدوه- فهو كقوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: ١] إلخ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض، وجملة هذا إلخ على ما قيل: استئناف لبيان المقتضى للدعوة.
هذا «والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة» سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول: قال الله سبحانه: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ لكمال استعدادك ووفور قابليتك وَطَهَّرَكِ عن الرذائل والأخلاق الردية وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي دوامي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى وَاسْجُدِي في مساجد الذل وَارْكَعِي في محاريب الخضوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية، ولله تعالى در من قال:

ويحسن إظهار التجلد للعدا ويقبح إلا العجز عند الحبائب
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي من أخبار غيب وجودك نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا نبي الروح وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي لدى القوى الروحانية والنفسانية، والمراد ما كنت ملتفتا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم إِذْ يُلْقُونَ أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير أَيُّهُمْ يَكْفُلُ ويدبر مَرْيَمَ النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرياسة قبل الرياضة وفي حالها إِذْ قالَتِ ملائكة القوى الروحانية حين غلبت يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بمقتضى التوجه إليه بِكَلِمَةٍ مِنْهُ جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم اسْمُهُ الْمَسِيحُ لأنه يمسحك بالنور، أو لأنه مسح به وَجِيهاً فِي الدُّنْيا لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة، ووجيها في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح، أو شريفا مرفوعا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات،
وفي الخبر «ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن»
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك وَكَهْلًا بالغا طور شيخ الروح وواصلا وسط الطريق قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ مثل هذا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الالهية، وهذا شأن المرادين وبعض المريدين:
رب شخص تقوده الأقدار للمعالي وما لذاك اختيار

صفحة رقم 166

وَيُعَلِّمُهُ بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الالهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن ويجعله رسولا إلى الروحانيين من بني إسرائيل الروح قائلا: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ من عالم الغيب بآية عظيمة وهي أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ بالتربية من طين النفوس البشرية كَهَيْئَةِ الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف فَأَنْفُخُ فِيهِ بنفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقة فَيَكُونُ طَيْراً أي نفسا حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جناب الحق سبحانه بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي الأعمى المحجوب برؤية الأغيار عن رؤية نور الأنوار وَالْأَبْرَصَ المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية وَأُحْيِ موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أي تتناولون من الشهوات واللذات وَما تَدَّخِرُونَ في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً لَكُمْ نافعة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره، وأشير بذلك إلى علم الباطن، والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: ٢٨] وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه، فقد قال مولانا زين العابدين:
ورب جوهر علم لو أبوح به... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا

غافل والسعادة احتضنته وهو عنها مستوحش نفار
ولا استحل أناس مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ بعد أخرى مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفتي وَأَطِيعُونِ فيما فيه كمال نشأتكم إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم فَاعْبُدُوهُ بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يوصلكم إليه ويفد بكم عليه فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام، وقيل: يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحا لطرف منها داخلا تحت القول، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ولا يكون أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ إلخ متعلقا بما قبله، ولا يكون داخلا تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل- بأني قد جئتكم بآية من ربكم- الآية، والفاء هنا مفصحة بمثل المقدر هناك على التقدير الثاني، وأصل الاحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة، وقيل: إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس، والقول- بأن المراد إحساس آثار الكفر- ليس بشيء، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه من العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام، وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة.
أخرج إسحق بن بشر، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد؟! فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر. ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنقض رأسها من التراب فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا

صفحة رقم 167

حاجة لي في الدنيا يا روح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا» وروي عن مجاهد أنهم أرادوا قتله ولذلك استنصر قومه،
ومن- لابتداء الغاية متعلق- بأحس- أي ابتدأ الاحساس من جهتهم وجوز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادرا منهم.
قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ المقول لهم الحواريون كما يشير إليه آية- الصف- كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية. وكونه- جميع بني إسرائيل لقوله تعالى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ [الصف:
١٤] ليس بشيء إذ الآية ليست بنص في المدعى إذ يكفي في تحقق الانقسام بلوغ الدعوة إلى الجميع، والأنصار- جمع نصير كالأشراف جمع شريف، وقال قوم: هو جمع نصر، وضعفه أبو البقاء إلا أن يقدر فيه مضاف أي من صاحب نصرى، أو تجعله مصدرا وصف به، والجار والمجرور إما أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من الياء وهي مفعول به معنى، والمعنى من ينصرني حال كوني ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا إلى الله، إما أن يتعلق- بأنصاري- مضمنا معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، وفي الكشاف في تفسير سورة الصف ما حاصله مما يخالف ما ذكره هنا أن إضافة أنصار- للياء إضافة ملابسة أي من حزبي ومشاركي في توجهي لنصرة الله تعالى ليطابق جوابهم الآتي ولا يصح أن يكون معناه من ينصرني مع الله لعدم المطابقة، وفيه أن عدم المطابقة غير مسلم إذ نصرة الله تعالى في الجواب ليست على ظاهرها بل لا بد من تجوز، أو إضمار في نصرهم لله تعالى ويضمر ما تحصل به المطابقة، نعم كون إِلَى بمعنى- مع- لا يخلو عن شيء فقد ذكر الفراء أنها إنما تكون كذلك إذا ضم شيء آخر نحو الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممته إليه صار إبلا، ألا تراك تقول قدم زيد ومعه مال، ولا تقول: وإليه مال- وكذا نظائره- فالسالم عن هذا الحمل من التفاسير مع اشتماله على قلة الإضمار أولى، ومَنْ هنا اختار بعضهم كون إلى بمعنى اللام، وآخرون كونها بمعنى- في..
وقال في الكشف لعل الأشبه في معنى الآية- والله تعالى أعلم- أن يحمل على معنى- من ينصرني منهيا نصره إلى الله تعالى- كما يقتضيه حرف الانتهاء دون تضمين كأنه عليه السلام طلب منهم أن ينصروه لله تعالى لا لغرض آخر مدمجا أن نصرة الله تعالى في نصرة رسوله، وجوابهم المحكي عنهم بقوله سبحانه:
قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ شديد الطباق له كأنهم قالوا: نحن ناصروك لأنه نصر الله تعالى للغرض الذي رمز إليه، ولو قالوا مكانه: نحن أنصارك لما وقع هذا الموقع انتهى.
وأنت تعلم أن جعل إِلَى بمعنى اللام، أو في التعليليتين يحصل طلبة المسيح التي أشير إليها على وجه لعله أقل تكلفا مما ذكر، وكأن اختيار ذلك لما قاله الزجاج: من أنه لا يجوز أن يقال: إن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر لكن الحرفين قد يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد وليس بذلك فليفهم، والحواريون- جمع حواري يقال: فلان حواري فلان أي خاصته من أصحابه وناصره، وليس الحواري جمعا ككراسي على ما وهم بل هو مفرد منصرف كما صرح به المحققون، وذكر العلام التفتازاني أنه مفرد وألفه من تغييرات النسب وفيه أن الألف إذا زيدت في النسبة وغيرت بها تخفف الياء في الأفصح في أمثاله، والحواري بخلافه لأن تخفيف يائه شاذ كما صرحوا به، وبه قرئ في الآية، وأصله من التحوير أي التبييض، ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد أخرى والحواريات للحضريات نساء المدن والقرى لما أنه يغلب فيهن البياض لعدم البروز للشمس، ويطلق الحواري على- القصار- أيضا لأنه يبيض الثياب وهو بلغة النبط، هواري بضم الهاء وتشديد الواو وفتح الراء قاله

صفحة رقم 168

الضحاك «واختلف» في سبب تسمية أولئك القوم بذلك فقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم- وهو المروي عن سعيد بن جبير- وقيل: لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب للناس- وهو المروي عن مقاتل وجماعة- وقيل: لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم- وإليه يشير كلام قتادة- وفي تعيين أنهم من أي الطوائف من الناس خلاف أيضا
فقيل: قوم كانوا يصطادون السمك فيهم يعقوب، وشمعون، ويوحنا فمر بهم عيسى عليه السلام فقال لهم: أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية؟ فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمر عيسى عليه السلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاصطاد ما ملأ سفينتين فعند ذلك آمنوا به عليه السلام،
وقيل: هم اثنا عشر رجلا، أو تسعة وعشرون من سائر الناس اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا أسقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ويأكلون،
وقيل: إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه السلام على قصعة فكانت القصعة لا تنقص فذكر ذلك للملك فذهب إليه الملك مع أقاربه فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم فقال الملك: إني تارك ملكي ومتبعك فتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون،
وقيل: إنه أمه دفعته إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا وجده أعلم به منه فغاب الصباغ يوما لمهم وقال له: هاهنا ثياب مختلفة وقد جعلت على كل منها علامة فاصبغها بتلك الألوان فطبخ عيسى عليه السلام حبا واحدا وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: أفسدت علي الثياب قال: قم فانظر فكان يخرج ثوبا أحمر، وثوبا أخضر، وثوبا أصفر كما كان يريد فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به وكانوا الحواريين،
ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك. وبعضهم من الصيادين. وبعضهم من القصارين. وبعضهم من الصباغين. وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام والمخلصين في محبته وطاعته.
والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقيا وإما أن يؤخذ مجازيا وهو الأوفق بشأن أولئك الأنصار، وقيل: إنه مأخوذ من حار بمعنى رجع. ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق: ١٤] وكأنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى.
ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فإن أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث إنه لم يصح أن عيسى عليه السلام أمر به وادعاه بعضهم مستدلا بقوله تعالى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف: ١٤] ولا يخفى أن الآية ليست نصا في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة، وإن أريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك.
نعم استشكل أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن مأمورا بالقتال فما معنى طلبه الأنصار؟ وأجيب بأنه عليه السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم- كما قاله الحسن- ومجاهد- ولم يستنصر للقتال معهم على الايمان بما جاء به، وهذا هو الذي لم يؤمر به لا ذلك بل ربما يدعي أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة على حفظ النفس،
وقد روي أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقي فيه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم، وفي بعض الأناجيل أن اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بإذنه فقال له عيسى عليه السلام: حسبك ثم

صفحة رقم 169

أدنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت،
وقيل: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المخالف وذلك لا يستدعي الأمر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف، والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما على ما هو المشهور آمَنَّا بِاللَّهِ مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها وَاشْهَدْ عطف على آمَنَّا ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله، وقيل إن آمَنَّا لإنشاء الإيمان أيضا فلا اختلاف بأنّا مسلمون أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولا أوليا نصرتهم له، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذانا- كما قال الكرخي- بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء فيه المائدة «بأننا» لأن ما فيها- كما قيل- أول كلام الحواريين فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطارا لسحائب إجابة دعائهم الآتي، وقيل: مبالغة في إظهار أمرهم وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي محمد صلّى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشهد لهم بالصدق- رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الأمم قبلهم، وقيل: المراد من الشَّاهِدِينَ الأنبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها، وقال مقاتل: هم الصادقون، وقال الزجاج: هم الشاهدون للأنبياء بالتصديق، وقيل: أرادوا مع المستغرقين في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك، وقيل: أرادوا اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: ١٨] ولا يخفي ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك، أو في عداد أتباعهم، وقيل: وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ فَاكْتُبْنا إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال، وقيل: المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الأزل.
ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الإيمان في الخاتمة، والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول- اكتبنا- وَمَكَرُوا أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ بأن ألقى شبهة عليه السلام على غيره فصلب ورفعه إليه، قال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث: ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى وقال وهب: أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهودا- وهو الذي دلهم على عيسى- وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فأدخل البيت ورفع وقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه- وهم يظنون أنه عيسى- فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه

صفحة رقم 170

الله سبحانه، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم.
وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء، وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابن الله عز وجل ثم رفعه الله سبحانه إليه، وقالت فرقة أخرى منهم: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم
فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، وروي عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له: إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص- فعل وفعل- فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقا عظيما، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة، والنضير إلى الحجاز.
هذا وأصل المكر قيل: الشر، ومنه «مكر الليل» إذا أظلم، وقيل: الالتفات ومنه- المكوّر- لضرب من الشجر ذي التفاف، واحده مكر، والممكورة من النساء للملتفة الخلق مطويته وفسره البعض بصرف الغير عما يقصده بحيلة، وآخرون باختداع الشخص لإيقاعه في الضرر، وفرقوا بينه وبين الحيلة بأنها قد تكون لإظهار ما يسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار، والمكر حيلة على الشخص توقعه في مثل الوهق، وقالوا: لا يطلق على الله تعالى إلا بطريق المشاكلة لأنه منزه عن معناه وغير محتاج إلى حيلة فلا يقال ابتداء مكر الله سبحانه- وإلى ذلك ذهب العضد وجماعة- وخالفهم الأبهري. وغيره فجوزوا الإطلاق بلا مشاكلة مستدلين بقوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف: ٩٩] فإنه نسب إليه سبحانه ابتداء.
ونقل عن الإمام أن المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفي فيه، وأنه يجوز صدوره عنه تعالى حقيقة، وقال غير واحد: إنه عبارة عن التدبير المحكم وهو ليس بممتنع عليه تعالى،
وفي الحديث «اللهم امكر لي ولا تمكر بي»
ومن ذهب إلى عدم الإطلاق- إلا بطريق المشاكلة- أجاب عن الاستدلال بالآية ونحوها بأن ذلك من المشاكلة التقديرية كما في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: ١٣٨] ولا يخفى ما فيه، فالأولى القول بصحة الإطلاق عليه سبحانه ابتداء بالمعنى اللائق بجلاله جل جلاله، ومما يؤيد ذلك قوله سبحانه: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقواهم مكرا وأشدهم، أو أن مكره أحسن وأوقع في محله لبعده عن الظلم فإنه يبعد المشاكلة إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف- لمكر- أو بمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر اذكر- كما في أمثاله- لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن لتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: هذا من

صفحة رقم 171

المقدم والمؤخر أي رافعك إلي ومتوفيك، وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى، وفي
قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».
وثانيها أن المراد إني مستوف أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك.
وثالثها أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الأرض- من توفى المال- بمعنى استوفاه وقبضه.
ورابعها أن المراد بالوفاة هنا النوم لأنهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر،
وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وهو نائم رفقا به،
وحكي هذا القول والذي قبله أيضا عن الحسن.
وخامسها أن المراد أجعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه، وسادسها أن المراد آخذك وافيا بروحك وبدنك فيكون وَرافِعُكَ إِلَيَّ كالمفسر لما قبله، وسابعها أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت، وثامنها أن المراد مستقبل عملك، ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عز بعد لا سيما الأخير، وقيل: الآية محمولة على ظاهرها،
فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال: توفى الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه.
وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين، وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس- والصحيح كما قاله القرطبي- أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم- وهو اختيار الطبري- والرواية الصحيحة عن ابن عباس، وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى.
ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم، ولا بأس بنقله ورده فإن في ذلك ردّ عواهم فيه عليه السلام الربوبية على أتم وجه، فنقول: قالوا: بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا: الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال: السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع: مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصي وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن هذه ساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمع الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلا وجلس ناحية منها متنكرا ليرى ما يؤول أمره إليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال: أنا أقدر أن أنقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس: ما تجيب عن نفسك بشيء؟
فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح؟ فقال أنت قلت ذاك وأنا أقول لكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى تروه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناسا من القيام هاهنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الإنسان آتيا في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال: ما حاجتنا إلى شهادة يهودا قد سمعتم ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت فحينئذ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزئوا به وجعلوا يلطمون ويقولون: بين لنا من لطمك ولما كان من الغد أسلموه لفيلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره- يصلب يصلب- فتحرج فيلاطس من قتله، وقال: أي شر فعل هذا فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذ ساقه جند القائد

صفحة رقم 172

إلى الابروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباسا أحمر وضفروا إكليلا من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزئون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلا مدافا بمرّ فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحا مكتوبا هذا يسوع ملك اليهود استهزاء به، ثم جاؤوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيرا له وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب، وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلا على الله تعالى فهو ينجيه مما هو فيه؟ ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم- آلوى آلوى أيما صاصا- أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم على قصبة وسقاه، وقال آخر: دعوه حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح وانشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجرا عظيما وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيدي ذكرنا أن ذاك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا أقوم بعد ثلاثة أيام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كي لا يأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون الضلالة الثانية شرا من الأولى فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا، وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقتها لينظرن إلى القبر.
وفي إنجيل مرقص إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس وإذا ملك قد نزل من السماء برجة عظيمة فألقى الحجر عن القبر وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق فكاد الحرس أن يموتوا من هيبته ثم قال للنسوة: لا تخافا قد علمت أنكما جئتما تطلبان يسوع المصلوب ليس هو هاهنا إنه قد قام تعالين انظرن إلى المكان الذي كان فيه الرب واذهبا وقولا لتلاميذه إنه سبقكم إلى الخليل فمضتا وأخبرتا التلاميذ ودخل الحراس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر فقالوا: لا تنطقوا بهذا ورشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوا ذلك منهم وأشاعوا أن التلاميذ جاؤوا وسرقوه ومهدت المشايخ عذرهم عند القائد ومضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل وقد شك بعضهم، وجاء لهم يسوع وكلمهم وقال لهم: اذهبوا فعمدوا كل الأمم وعلموهم ما أوصيكم به، وهو ذا أنا معكم إلى انقضاء الدهر انتهى.
«وهاهنا أمور» الأول أنه يقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا أو آحادا فإن زعموا أنه آحاد لم تتم بذلك حجة ولم يثبت العلم إذ الآحاد لم يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض لهم ذلك فيكف يحتج بقولهم في القطعيات؟ وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: أحد شروط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة بأن يكون الإخبار في كل طبقة ممن لا يمكن مواطأته على الكذب فإن زعمتم أن خبر قتل المسيح كذلك أكذبتم نصوص الإنجيل الذي بأيديكم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم- وعليه معولكم: إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة قليلة من تلامذته فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فلما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إليه فعرفته فقالت: هذا كان مع يسوع فحلف أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم حتى تركوه وذهب. ولم يكد يذهب وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر أحد منهم بشهادة الإنجيل، وأما أعداؤه اليهود الذين تزعمون أنهم حضروا الأمر فلا

صفحة رقم 173

نسلم أنهم بلغوا عدد التواتر بل كانوا آحادا وهو أعداء يمكن تواطؤهم على الكذب على عدوهم إيهاما منهم أنهم ظفروا به وبلغوا منه أمانيهم فانخرم شرط التواتر.
ويؤيد هذا أن رؤساء الكهنة فيما زعمتم رشوا الحراس فلا يبعد أن تكون هذه العصابة من اليهود صلبوا شخصا من أصحاب يسوع وأوهموا الناس أنه المسيح لتتم لهم أغراضهم على أن الأخباريين ذكروا أن بختنصر قتل علماء اليهود في مشارق الأرض ومغاربها لأنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا حتى لم يبق منهم إلا شرذمة، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى أيضا.
الثاني أن في هذا الفصل ما تحكم البداهة بكذبه، وما تضحك الثكلى منه، وما يبعده العقل مثل قوله للكهنة:
إنكم من الآن ما ترون ابن الإنسان- يريدون بالإنسان الرب سبحانه- فإنه لم يرد إطلاق ذلك عليه جل شأنه في كتاب، وقوله: إن ناسا من القيام هاهنا إلخ فانه لم ير أحد من القيام هناك قبل موتة عيسى عليه السلام آتيا في ملكوته، وقول الملك للنسوة: تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرب فإنه يقال فيه: أرب يقبر وإله يلحد، أف لتراب يغشى وجه هذا الإله، وتبا لكفن ستر محاسنه، وعجبا للسماء كيف لم تبد- وهو سامكها- وللأرض لم تمد- وهو ماسكها- وللبحار كيف لم تغض- وهو مجريها- وللجبال كيف لم تسر- وهو مرسيها- وللحيوان كيف لم يصعق- وهو مشبعه- وللكون كيف لم يمحق- وهو مبدعه- سبحان الله كيف استقام الوجود والرب في اللحود، وكيف ثبت العالم على نظام والإله في الرغام إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: ١٥٦] على المصيبة بهذا الرب والرزية بهذا الإله لقد ثكلته أمه، وعدمه لا أبا لك قومه؟! وقوله: إلهي إلهي لم خذلتني فإنه ينافي الرضا بمرّ- القضاء، ويناقض التسليم لأحكام الحكيم، وذلك لا يليق بالصالحين فضلا عن المرسلين على أنه يبطل دعوى الربوبية التي تزعمونها والألوهية التي تعتقدونها، وقولهم: إنه قام كثير من القديسين من قبورهم إلخ فإنه كذب صريح لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، وقولهم: مضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل إلخ فإنه قد انطفأ فيه سراج التلميذ الثاني عشر على ما يقتضيه قول المسيح: ويل لمن يسلم ابن الإنسان مع أن يسوع يزعمكم قال لتلاميذه الإثني عشر وفيهم يهودا الاسخريوطي الذي أسلمه للقتل إنكم ستجلسون يوم القيامة على اثنى عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل، وقولهم: إنهم سألهم شربة ماء فإنه في غاية البعد لأن الإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة ومثله لا يجزع من فراق الماء ساعة لا سيما وقد كان يقول لتلاميذه: إن لي طعاما لا تعرفونه إلى غير ذلك.
«الثالث» إن ما ذكروا من قيام المسيح من قبره ليلة السبت مع صلبه يوم الجمعة مخالف لما رواه متى في إنجيله فإنه قال فيه: سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلا آية يونيان النبي- يعني يونس عليه السلام- لأنه أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال.
«والرابع» أن في هذه القصة ما يدل دلالة واضحة على أن المصلوب هو الشبه وأن الله تعالى حمى المسيح عليه السلام عن الصلب كما سيتضح لك مع زيادة تحقيق عند قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:
١٥٧] هذا وإنما أكد الحكم السابق اعتناء به أو لأن تسلط الكفار عليه جعل المقام مقام اعتقاد أنهم يقتلونه، وأراد سبحانه بقوله: وَرافِعُكَ إِلَيَّ رافعك إلى سمائي، وقيل: إلى كرامتي، وعلى كل فالكلام على حذف مضاف إذ من المعلوم أن البارئ سبحانه ليس بمتحيز في جهة، وفي رفعه إلى أي سماء خلاف والذي اختاره الكثير من العارفين أنه

صفحة رقم 174

رفع إلى السماء الرابعة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رفعه إلى السماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس.
وفي الخازن أن سبحانه لما رفعه عليه السلام إليه كساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا، وأورد بعض الناس هاهنا إشكالات وهي أن الله تعالى كان قد أيده بجبريل عليه السلام كما قال سبحانه: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: ٨٧، ٢٥٣] ثم إن طرف جناح من أجنحة جبريل كان يكفي للعالم فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟! وأيضا أنه عليه السلام لما كان قادرا على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتتهم ودفع شوكتهم. أو على إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين من التعرض له؟ وأيضا لما خلصه من الأعداء بأن رفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وأجيب عن الكل بأن بناء التكليف على الاختيار، ولو أقدر الله تعالى جبريل، أو عيسى عليهما السلام على دفع الأعداء، أو رفعه من غير إلقاء شبهه إلى السماء لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، والقول- بأن فتح باب إلقاء الشبه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وإبطال التواتر، وأيضا إن في ذلك الإلقاء تمويها وتخليطا وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى- ليس بشيء، أما أولا فلأن إلقاء شبه شخص على آخر وإن كان ممكنا في نفسه إلا أن الأصل عدم الإلقاء واستقلال كل من الحيوان بصورته التي هي له، نعم لو أخبر الصادق بإلقاء صورة شخص على آخر قلنا به واعتقدناه فحينئذ لا يرتفع الأمان عن المحسوسات بل هي باقية على الأصل فيها فيما لم يخبر الصادق بخلافه على أن إبطال التواتر بفتح هذا الباب ممنوع لأنه لم يشترط في الخبر أن يكون عن أمر ثابت في نفس الأمر بل يكفي فيه كونه عن أمر محسوس على ما قاله بعض المحققين، وأما ثانيا فلأن التمويه والتلبيس إن كان على الأعداء فلا نسلم أنه مما لا يليق بالحكمة وإن كانت النجاة مما تمكن بدون الإلقاء وإن كان ذلك على أوليائه فلا نسلم أن في الإلقاء تمويها لأنهم كانوا عارفين يقينا إن المطلوب الشبه لا عيسى عليه السلام كما ستعرفه إن شاء الله تعالى، والقول- بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر أنه بقي حيا زمانا طويلا فلولا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر- ليس بشيء أيضا، أما أولا فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حيا زمانا طويلا مما لم يثبتها برهان. والثابت أن المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن، ومقدار أربع ساعات لا يعد زمانا طويلا كما لا يخفى، وأما ثانيا فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لأنه أدركته دهشة منعته من البيان والإيضاح، أو لأن الله تعالى أخذ على لسانه فلم يستطع أن يخبر عن نفسه صونا لنبيه عليه السلام أن يفصح الرجل عن أمره، أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه رغبة في الشهادة، ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه السلام التلاميذ- على ما نقلوا قبل- بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من أصحاب الأنبياء عليهم السلام فهو من رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: ٢٣]، ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روي أنه جعل يقول لليهود عند الصلب: لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه، والقول- بأنه لو كان ذلك لتواتر- لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبرا فتأمل وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل أن يكون تطهيره عليه السلام بتبعيده منهم بالرفع، ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل، وفي الأول جعلهم كأنهم نجاسة، وفي الثاني جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر- وإلى الثاني ذهب الجبائي.

صفحة رقم 175

والمراد من الموصول اليهود، وأتى بالظاهر- على ما قيل- دون الضمير: إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول: اليهود، والنصارى، والمجوس، وكفار قومه وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ قال قتادة. والحسن، وابن جريج. وخلق كثير: هم أهل الإسلام اتبعوه على ملته وفطرته من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم اليهود وسائر من شمله هذا المفهوم فإن المؤمنين يعلونهم بالحجة، أو السيف في غالب الأمر.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن المراد من الموصول الأول النصارى، ومن الثاني اليهود وقد جعل سبحانه النصارى فوق اليهود فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق الدنيا وغربها، وعلى هذا يكون المراد من الأتباع مجرد الادعاء والمحبة ولا يضر في غلبتهم على اليهود غلبة المسلمين عليهم، وإذا أريد بالأتباع ما يشمل أتباع المسلمين، وهذا الأتباع يصح أن يراد بالمتبعين ما يشمل المسلمين والنصارى مطلقا من آمن به قبل مجيء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ونسخ شريعته، ومن آمن بزعمه بعد ذلك- وقد يراد من الأتباع- الأتباع بالمعنى الأول فيجوز أن يراد من المبتعين المسلمون، والقسم الأول من النصارى، وتخصيص المتبعين بهذه الأمة- وحمل الأتباع على المجيء بعد- مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن الوقف على الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالجعل أو بالاستقرار المقدر في الظرف، وليس المراد إن ذلك ينتهي حينئذ ويتخلص الَّذِينَ كَفَرُوا من الذلة بل المراد أن المتبعين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى ما يريد.
ومن الناس من حمل الفوقية- على العلو الرتبي والفوقية بحسب الشرف وجعل التقييد بيوم القيامة للتأبيد كما في قولهم ما دامت السماء، وما دار الفلك بناء على ظن أن عدم انتهاء علو المؤمنين وذلة الكافرين إلى ذلك اليوم موجب لهذا الجعل- وليس بذلك ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مصيركم بعد يوم القيامة ورجوعكم، والضمير لعيسى عليه السلام والطائفتين، وفيه تغليب على الأظهر، وثُمَّ للتراخي وتقديم الظرف للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد، ويحتمل أن يكون الضمير لمن اتبع وكفر فقط، وفيه التفات للدلالة على شدة إرادة إيصال الثواب والعقاب لدلالة الخطاب على الاعتناء.
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي فأقضي بينكم إثر رجوعكم إليّ ومصيركم بين يدي فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمور الدين، أو من أمر عيسى عليه السلام، والظرف متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه: فَأَحْكُمُ وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؟
وأجيب بوجوه، الأول أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة، الثاني أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جدا.
الثالث ما ذكر صاحب الكشف من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وقوله سبحانه: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غاية الفوقية لا غاية الجعل، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك: سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع، وعلى هذا توفية الأجر لغنم الدارين، ولا يخفى أن في لفظ كُنْتُمْ في قوله جل وعلا: فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بعض نبوة

صفحة رقم 176

عن هذا المعنى، وأن المعنى- أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا.
الرابع أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في الكشف: وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جدا إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال: إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة.
الخامس أن في الدنيا والآخرة متعلق- بشديد- تشديدا لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى، والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى ثُمَّ على التراخي والرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخرا عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذ لا هم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذابا، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله، وصيغة الجمع- كما قال مولانا مفتي الروم- لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد.
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان الحال القسم الثاني، وبدأ بقسم الَّذِينَ كَفَرُوا لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم أول ما يتبادر منه في بادئ النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولأنه أقرب في الذكر لقوله تعالى: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وهموا بقتله فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي فيوفر عليهم ويتمم جزاء أعمالهم القلبية والقالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافيا من غير نقص.
وزعم بعضهم أن توفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة- والظاهر أنها أعم من ذلك- وعلق التوفية على الإيمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاء إليها وإيذانا بعظم قبح الكر، وقرأ حفص، ورويس عن يعقوب- فيوفيهم- بياء الغيبة، وزاد رويس ضم الهاء، وقرأ الباقون بالنون جريا على سنن العظمة والكبرياء، ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الاجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب، والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء، وجوز أن يكون منصوبا بفعل محذوف يفسره ما ذكر، وموضع المحذوف بعد الصلة- كما قال أبو البقاء- ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن- أما- لا يليها الفعل.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم، أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة، والجملة تذييل لما قبل مقرر لمضمونه ذلِكَ أي المذكور من أمر عيسى عليه السلام والإتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف.
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي نسرده ونذكره شيئا بعد شيء، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الحاصلة اعتناء بها، وقيل: يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد مِنَ الْآياتِ أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب، أو معلم، ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي وَالذِّكْرِ أي القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه، ومِنَ تبعيضية على الأول، وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد الْحَكِيمِ أي

صفحة رقم 177

المحكم المتقن نظمه، أو الممنوع من الباطل، أو صاحب الحكمة، وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته إما على وجه الاستعارة التبعية في لفظ حكيم، أو الإسناد المجازي بأن أسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه، وجعله من باب الاستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة وأثبت له الوصف- بحكيم- تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل، وجوز في الآية أوجه من الإعراب، الأول أن ذلك مبتدأ، ونَتْلُوهُ خبره، وعَلَيْكَ متعلق بالخبر، ومِنَ الْآياتِ حال من الضمير المنصوب، أو خبر بعد خبر، أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الإشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل: لأن الحال لا يتقدم العامل المعنوي، الثاني أن يكون ذلك خبرا لمحذوف أي الأمر ذلِكَ، ونَتْلُوهُ في موضع الحال من ذلِكَ ومِنَ الْآياتِ حال من الهاء، الثالث أن يكون ذلك في موضع نصب فعل دل عليه- نتلو- فيكون مِنَ الْآياتِ حالا من الهاء أيضا إِنَّ مَثَلَ عِيسى
ذكر غير واحد أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: ما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس [النمل: ١] «سليمان» بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل ابن وداعة فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبيا وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله بن شرحبيل. وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل الله هذه الآية إِنَّ مَثَلَ عِيسى إلى قوله سبحانه: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أرى أمرا ثقيلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فتلاعناه لا يبقى على ظهر الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له: أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إني رأيت خيرا من ملاعنتك قال: وما هو؟ قال:
حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية،
وروي غير ذلك كما سيأتي قريبا، والمثل- هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة- كما قيل به- بل بمعنى الحال والصفة العجيبة أي إن صفة عيسى عِنْدَ اللَّهِ أي في تقديره

صفحة رقم 178

وحكمه، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه: كَمَثَلِ آدَمَ أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته، ومِنْ لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، والضمير المنصوب- لآدم- والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي صر بشرا فصار، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه، مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحما ودما زمان طويل،
فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح
والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله، وذهب كثير من المحققين إلى أن ثُمَّ للتراخي في الأخبار لا في المخبر به، وحملوا الكلام على ظاهره، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي- كما لا يخفى، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول- بأنه عائد على عيسى- ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه، قيل: وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب يخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم.
والقول- بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب- مما لا مستند له من عقل ولا نقل «ونفخنا فيه من روحنا» (١) لا يدل عليه بوجه أصلا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر لمحذوف أي هو الحق، وهو راجع إلى البيان، والقصص المذكور سابقا، والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون الْحَقُّ مبتدأ، ومِنْ رَبِّكَ خبره، ورجح الأول بأن المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقا كآدم عليهما السلام هو الْحَقُّ لا ما يزعمه النصارى، وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرا على هذا المعنى لا يتأتى إلا بتكلف إرادة أن كل حق، أو جنسه من الله تعالى، ومن جملته هذا الشان، أو حمل اللام على العهد بإرادة الْحَقُّ المذكور، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطافة الظاهرة فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: «فلا تكونن من المشركين» (٢) بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين:
«إحداهما» أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور «وثانيتهما» أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطف بغيره، وجوز أن يكون خطابا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب فَمَنْ حَاجَّكَ أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك فِيهِ أي في شأن عيسى

(١) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا فَنَفَخْنا...
(٢) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا وَلا تَكُونَنَّ.

صفحة رقم 179

عليه السلام لأنه المحدث عنه وصاحب القصة، وقيل: الضمير للحق المتقدم لقربه وعدم بعد المعنى مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الآيات الموجبة للعلم، وإطلاق العلم عليها إما حقيقية لأنها كما قيل: نوع منه، وإما مجاز مرسل، والقرينة عليه ذكر المحاجة المقتضية للأدلة، والجار والمجرور الأخير حال من فاعل جاءَكَ الراجع إلى ما الموصولة، ومِنْ من ذلك تبعيضية، وقيل: لبيان الجنس فَقُلْ أي لمن حاجّك- تَعالَوْا أي أقبلوا بالرأي والعزيمة، وأصله طلب الإقبال إلى مكان مرتفع، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه للمباهلة، وفي تقديم من قدم على النفس في المباهلة مع أنها من مظان التلف والرجل يخاطر لهم بنفسه إيذانا بكمال أمنه صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال يقينه في إحاطة حفظ الله تعالى بهم، ولذلك- مع رعاية الأصل في الصيغة فإن غير المتكلم تبع له في الاسناد- قدم صلى الله تعالى عليه وسلم جانبه على جانب المخاطبين ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل، فالافتعال هنا بمعنى المفاعلة، وافتعل وتفاعل أخوان في كثير من المواضع- كاشتور وتشاور، واجتور وتجاور. والأصل في البهلة- بالضم، والفتح فيه- كما قيل- اللعنة، والدعاء بها، ثم شاعت في مطلق الدعاء كما يقال: فلان يبتهل إلى الله تعالى في حاجته، وقال الراغب: بهل الشيء والبعير إهماله وتخليته ثم استعمل في الاسترسال في الدعاء سواء كان لعنا أو لا إلا أنه هنا يفسر باللعن لأنه المراد الواقع كما يشير إليه قوله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ أي في أمر عيسى عليه السلام فإنه معطوف على نبتهل مفسر للمراد منه أي نقول لعنة الله على الكاذبين، أو اللهم العن الكاذبين.
أخرج البخاري، ومسلم «أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له: نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال هذا أمين هذه الأمة،
وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء، والضحاك عن ابن عباس «أن ثمانية من أساقفة أهل نجران قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم العاقب، والسيد فأنزل الله تعالى فَقُلْ تَعالَوْا الآية فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة فصالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم»
وروي أنهم صالحوه على أن يعطوه في كل عام ألفي حلة وثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا.
وأخرج في الدلائل أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس «أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد- وهو الكبير- والعاقب- وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم- فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أسلما قالا: أسلمنا قال: ما أسلمتما قالا: بلى قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما، عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولدا، ونزل إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول، ونزل فَمَنْ حَاجَّكَ الآية فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم قال السيد للعاقب: قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ولئن لاعنتموه أنه لاستئصالكم وما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبث صغيرهم فإن أنتم لن تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ومعه

صفحة رقم 180

علي، والحسن، والحسين، وفاطمة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أنا دعوت فآمنوا أنتم فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية».
وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه: «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة» وعن جابر «والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا». وروي أن أسقف نجران «لما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا ومعه علي، وفاطمة، والحسنان رضي الله عنهم قال: يا معشر النصارى: إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا وتهلكوا».
هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو يختص به وبمن يباهله لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، وأكمل نكاية بالعدو وأوفر إضرارا به لو تمت المباهلة، وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته، ودلالتها على فضل آل الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما لا يمتري فيها مؤمن، والنصب جازم الإيمان، واستدل بها الشيعة على أولوية علي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنار على رواية مجيء علي كرم الله تعالى وجهه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن. والحسين، وبنسائنا فاطمة، وبأنفسنا الأمير، وإذا صار نفس الرسول- وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل- تعين أن يكون المراد المساواة، ومن كان مساويا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟! فهو أفضل وأولى بالتصرف من غيره، ولا معنى للخليفة إلا ذلك، وأجيب عن ذلك أما أولا فبأنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم، ويجعل الأمير داخلا في الأبناء، وفي العرف يعد الختن ابنا من غير ريبة، ويلتزم عموم المجاز إن قلنا: إن إطلاق الابن على ابن البنت حقيقة، وإن قلنا: إنه مجاز لم يحتج إلى القول بعمومه وكان إطلاقه على الأمير وابنيه رضي الله تعالى عنهم على حد سواء في المجازية.
وقول الطبرسي، وغيره من علمائهم- إن إرادة نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم من أنفسنا لا تجوز لوجود نَدْعُ والشخص لا يدعو نفسه- هذيان من القول، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث- دعته- نفسه إلى كذا، ودعوت نفسي إلى كذا، وطوعت له نفسه، وآمرت نفسي، وشاورتها إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فيكون حاصل نَدْعُ أَنْفُسَنا نحضر أنفسنا وأي محذور في ذلك على أنا لو قررنا الأمير من قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم وأبناءهم ونساءهم بعد قوله: تَعالَوْا كما لا يخفى.
وأما ثانيا فبأنّا لو سلمنا أن المراد بأنفسنا الأمير لكن لا نسلم أن المراد من النفس ذات الشخص إذ قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة. ومن ذلك قوله تعالى «يخرجون أنفسهم من ديارهم» (١) وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: ١١] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: ١٢] فلعله لما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين عبر عنه بالنفس، وحينئذ لا تلزم المساواة التي هي عماد استدلالهم على أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ونحو ذلك- وهو باطل بالإجماع- لأن التابع دون المتبوع ولو كان المراد المساواة في البعض لم يحصل الغرض لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل

(١) لا يوجد آية بهذا النص، والذي في الآية ٨٥ من سورة البقرة: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ.

صفحة رقم 181

وأولى بالتصرف بالضرورة، وأما ثالثا فبأن ذلك لو دل على خلافة الأمير كما زعموا لزم كون الأمير إماما في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم- وهو باطل بالاتفاق- وإن قيد بوقت دون وقت فمع أن التقييد مما لا دليل عليه في اللفظ لا يكون مفيدا للمدعي إذ هو غير متنازع فيه لأن أهل السنة يثبتون إمامته في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائما في محل النزاع، ولضعف الاستدلال به في هذا المطلب بل عدم صحته كالاستدلال به على أفضلية الأمير علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لزعم ثبوت مساواته للأفضل منهم فيه لم يقمه محققو الشيعة على أكثر من دعوى كون الأمير، والبتول، والحسين أعزة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما صنع عبد الله المشهدي في كتابه- إظهار الحق.
وقد أخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: «لما نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ إلخ دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا، وفاطمة، وحسنا، وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي»
وهذا الذي ذكرناه من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم هؤلاء الأربعة المتناسبة رضي الله تعالى عنهم هو المشهور المعول عليه لدى المحدثين.
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهم «أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر، وولده، وبعمر، وولده، وبعثمان، وولده، وبعلي، وولده»
وهذا خلاف ما رواه الجمهور.
واستدل ابن أبي علان من المعتزلة بهذه القصة أيضا على أن الحسنين كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين، وذهب الإمامية إلى أنها يشترط فيها كمال العقل والتمييز، وحصول ذلك لا يتوقف على البلوغ فقد يحصل كمال قبله ربما يزيد على كمال البالغين فلا يمتنع أن يكون الحسنان إذ ذاك غير بالغين إلا أنهما في سن لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أنه يجوز أن يخرق الله تعالى العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به- وهم القوم الذين لا تحصى خصائصهم.
وذهب النواصب إلى أن المباهلة جائزة لإظهار الحق إلى اليوم إلا أنه يمنع فيها أن يحضر الأولاد والنساء، وزعموا رفعهم الله تعالى لا قدرا، وحطهم ولا حط عنهم وزرا أن ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته وأنه لا يدل على فضل أولئك الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام، وأنت تعلم أن هذا الزعم ضرب من الهذيان، وأثر من مس الشيطان:

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس بن سعد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شيء فدعاه إلى المباهلة، وقرأ الآية ورفع يديه فاستقبل الركن وكأنه يشير بذلك رضي الله تعالى عنه إلى كيفية الابتهال وأن الأيدي ترفع فيه، وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك وأنها ترفع حذو المناكب إِنَّ هذا أي المذكور في شأن عيسى عليه السلام قاله ابن عباس لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ جملة اسمية خبر إِنَّ ويجوز أن يكون- هو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، والْقَصَصُ هو الخبر، وضمير الفصل يفيد القصر الإضافي كما يفيده تعريف الطرفين والْحَقُّ صفة القصص وهو المقصود بالإفادة أي- إن هذا هو الحق- لا ما يدعيه النصارى من كون المسيح عليه السلام إلها. وابن الله سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا، وقيل: إن الضمير للقصر والتأكيد لو لم يكن في الكلام ما يفيد ذلك

صفحة رقم 182

وإن كان كما هنا فهو لمجرد التأكيد، والأول هو المشهور- وعليه الجمهور ولعله الأوجه، واللام لام الابتداء والأصل فيها أن تدخل على المبتدأ إلا أنهم يزحلقونها إلى الخبر لئلا يتوالى حرفا تأكيد وإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ فافهم.
الْقَصَصُ على ما في البحر مصدر قولهم: قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا، وأصله تتبع الأثر يقال:
خرج فلان يقص أثر فلان أي يتتبعه ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص: ١١] أي تتبعي أثره، وكذلك القاص في الكلام لأنه يتتبع خبرا بعد خبر، أو يتتبع المعاني ليوردها، وهو هنا فعل بمعنى مفعول أي المقصوص الحق، وقرئ «لهو» بسكون الواو وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ رد النصارى في تثليثهم، وكذا فيه رد على سائر الثنوية ومِنْ زائدة للتأكيد كما هو شأن الصلات، وقد فهم أهل اللسان- كما قال الشهاب- أنها لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية لاختصاصها بذلك في الأكثر، وقد توقف محب الدين في وجه إفادة الكلمات المزيدة للتأكيد بأي طريق هي فإنها ليست وضعية، وأجاب بأنها ذوقية يعرفها أهل اللسان، واعترض بأن هذا حوالة على مجهول فلا تفيد فالأولى أن يقال: إنها وضعية لكنه من باب الوضع النوعي فتدبر وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب غلبة تامة، أو القادر قدرة كذلك، أو الذي لا نظير له الْحَكِيمُ أي المتقن فيما صنع، أو المحيط بالمعلومات، والجملة تذييل لما قبلها، والمقصود منها أيضا قصر الإلهية عليه تعالى ردا على النصارى أي قصر إفراد فالفصل والتعريف هنا كالفصل والتعريف هناك فما قيل: إنهما ليسا للحصر إذ الغالب على الأغيار لا يكون إلا واحدا فيلغو القصر فيه إلا أن يجعل قصر قلب والمقام لا يلائمه مما لا عصام له كما لا يخفى فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضيا، ويحتمل أن يكون مضارعا وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفا، وأصله تتولوا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي بهم، أو بكم، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه بِالْمُفْسِدِينَ من معاقبته لهم، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على العلة المقضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد، وقيل: المعنى على أن اللَّهَ عَلِيمٌ بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهتلك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك، والجملة على هذا أيضا عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلا أنه ليس الجزاء والعقاب، والكلام منساق لتسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى ما فيه.
«ومن باب الإشارة في الآيات» فَلَمَّا أَحَسَّ أي شاهد عيسى بواسطة النور الإلهي المشرق عليه مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي ظلمته، أو نفسه فإن المعاني تظهر للكمل على صور مختلفة باختلافها فيرونها.
وحكي عن الباز قدس سره أنه قال: إن الليل والنهار يأتياني فيخبراني بما يحدث فيهما، وعن بعض العارفين أنه يشاهد أعمال العباد كيف تصعد إلى السماء ويرى البلاء النازل منها قالَ مَنْ أَنْصارِي في حال دعوتي إلى الله سبحانه بأن يلتفت إلى الاشتغال بتكميل نفسه وتهذيب أخلاقها حتى يصلح لتربية الناقصين فينصرني ويعينني في تكميل الناقص وإرشاد الضال قالَ الْحَوارِيُّونَ المبيضون ثياب وجودهم بمياه العبادة ومطرقة المجاهدة وشمس المراقبة نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي أعوان الفانين فيه الباقين به ومنهم عيسى عليه السلام آمَنَّا بِاللَّهِ الإيمان الكامل وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي مقادون لأمرك حيث إنه أمر الله سبحانه رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وهو ما نورت به قلوب أصفيائك من علوم غيبك وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فيما أظهر من أوامرك ونواهيك رجاء أن يوصلنا ذلك إلى محبتك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك، أو الحاضرين لك المراقبين لأمرك وَمَكَرُوا

صفحة رقم 183
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية