
سَنَةَ ٦٤ وَمِنَ الْأَقْوَالِ فِي الرَّابِعِ أَنَّهُ كُتِبَ فِي ٩٨ لِلْمِيلَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْ تَصْنِيفِ يُوحَنَّا وَأَنَّ خِلَافَهُمْ فِي سَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَأَقْوَى وَأَشَدُّ،
وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى رَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يُتَمِّمُ الشَّرِيعَةَ وَالْحُكْمَ وَالْأَحْكَامَ، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى فِي (٥: ١٤) أَنَّ النَّصَارَى نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَالْيَهُودِ، وَهُمْ أَجْدَرُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ كُتِبَتْ فِي زَمَنِ نُزُولِهَا، وَكَانَ الْأُلُوفُ مِنَ النَّاسِ يَعْمَلُونَ بِهَا، ثُمَّ فُقِدَتْ، وَالْكَثِيرُ مِنْ أَحْكَامِهَا مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ، وَلَا ثِقَةَ بِقَوْلِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ: إِنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي زَمَنِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمَّا كُتُبُ النَّصَارَى فَلَمْ تُعْرَفْ وَتُشْهَرْ إِلَّا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ لِلْمَسِيحِ؛ لِأَنَّ أَتْبَاعَ الْمَسِيحِ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالرُّومَانِ، فَلَمَّا أَمِنُوا بِاعْتِنَاقِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ النَّصْرَانِيَّةَ سِيَاسَةً ظَهَرَتْ كُتُبُهُمْ وَمِنْهَا تَوَارِيخُ الْمَسِيحِ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى بَعْضِ كَلَامِهِ الَّذِي هُوَ إِنْجِيلُهُ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً فَتَحَكَّمَ فِيهَا الرُّؤَسَاءُ حَتَّى اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. فَمَنْ فَهِمَ مَا قُلْنَاهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ عُرْفِ الْقُرْآنِ وَعُرْفِ الْقَوْمِ فِي مَفْهُومِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمُمَحِّصُ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي أَضَاعَهَا الْقَوْمُ، وَهِيَ مَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيَصِحُّ أَنَّ يُعَدَّ هَذَا التَّمْحِيصُ مِنْ آيَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأُ هَذِهِ الْأَسْفَارَ وَالْأَنَاجِيلَ الْمَعْرُوفَةَ وَلَا تَوَارِيخَ أَهْلِهَا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ وَأُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ فَقَطْ، بَلْ كَانَ يُجَارِيهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: الْأَنَاجِيلُ لَا الْإِنْجِيلُ. ثُمَّ إِنَّ مَنْ فَهِمَ هَذَا لَا تَرُوجُ عِنْدَهُ شُبَهَاتُ الْقِسِّيسِينَ الَّذِينَ يُوهِمُونَ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ هِيَ الَّتِي شَهِدَ بِصِدْقِهَا الْقُرْآنُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلِمَةِ " أَنْزَلَ " أَنَّ التَّوْرَاةَ نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فِي الْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ فَإِنَّهَا مَعَ تَرْتِيبِهَا مُكَرَّرَةٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأَسْفَارَ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيلُ نَزَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْكُتُبَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَنَاجِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهَا لَمَا أَفْرَدَ الْإِنْجِيلَ دَائِمًا، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً عِنْدَ النَّصَارَى حِينَئِذٍ، وَحَاوَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بَيَانَ اشْتِقَاقِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ أَصْلٍ عَرَبِيٍّ وَمَا هُمَا بِعَرَبِيَّيْنِ، وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ - وَهِيَ عِبْرِيَّةٌ - الشَّرِيعَةُ، وَمَعْنَى الْإِنْجِيلِ - وَهِيَ يُونَانِيَّةٌ - الْبِشَارَةُ، وَإِنَّمَا الْمَسِيحُ
مُبَشِّرٌ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ الَّذِي يُكْمِلُ الشَّرِيعَةَ لِلْبَشَرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُمَا هُدًى لِلنَّاسِ فَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ أَقُولُ: الْفُرْقَانُ: مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ وَهُوَ هُنَا مَا يُفَرَّقُ وَيُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُوَ كُلُّ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ كَالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ

وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِبَيَانِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي بِهِ تَكُونُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِنْزَالُهُ مِنْ قَبِيلِ إِنْزَالِ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عَنِ الْحَضْرَةِ الْعَلِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ يُسَمَّى إِعْطَاؤُهُ إِنْزَالًا، وَمَا قَالَهُ قَرِيبٌ مِمَّا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ ; فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ آلَةُ التَّفْرِقَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّورَى:
اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ [٤٢: ١٧] وَقَدْ فَسَّرُوا الْمِيزَانَ بِالْعَدْلِ، فَاللهُ - تَعَالَى - قَرَنَ بِالْكِتَابِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْفُرْقَانَ: وَهُوَ مَا نَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ فِي الْعَقَائِدِ فَنُفَرِّقُهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَثَانِيهِمَا الْمِيزَانُ: وَهُوَ مَا نَعْرِفُ بِهِ الْحُقُوقَ فِي الْأَحْكَامِ فَنَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهَا، فَكُلُّ مَا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ فِي الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ حَقٌّ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَا قَامَ بِهِ الْعَدْلُ فَهُوَ حُكْمٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنَزِّلُ، أَيِ الْمُعْطِي لِلْعَقْلِ وَالْعَدْلِ أَوِ الْفُرْقَانِ وَالْمِيزَانِ كَمَا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْمُنَزِّلُ، أَيِ الْمُعْطِي لِلْكِتَابِ، وَلَسْنَا نَسْتَغْنِي بِشَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَنْ آخَرِ. وَمَا زَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ وَأَهْلُ التَّوْحِيدِ يَعُدُّونَ الْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ هِيَ الْأَصْلَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى عُلَمَاءِ الْأَحْكَامِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ أَنْ يَحْذُوا حَذْوَهُمْ فِي الْعَدْلِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ يُمْكِنَ أَنْ يُعْرَفَ وَيُطْلَبَ لِذَاتِهِ وَأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَهَادِيَةٌ إِلَيْهِ، وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ اجْتِهَادِيَّةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَسَاسُهَا تَحَرِّي الْعَدْلِ. وَالْغَزَالِيُّ يُفَسِّرُ الْمِيزَانَ بِالْعَقْلِ الَّذِي يُؤَلِّفُ الْحُجَجَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْعَدْلِ وَالْجَوْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ قَوَامُ الْمَرْءِ الْعَقْلُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَمِنْ حَدِيثِهِ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَابْنِ النَّجَّارِ دِينُ الْمَرْءِ عَقْلُهُ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا دِينَ لَهُ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طُرُقِ السَّعَادَةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا يُلْقِي الْكَفْرُ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ الَّتِي تُطْفِئُ نُورَهَا، وَمَا يَجُرُّهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي تُدَسِّي نُفُوسَهُمْ وَتُدَنِّسُهَا حَتَّى تَكُونَ ظُلْمَةُ عُقُولِهِمْ وَفَسَادُ نُفُوسِهِمْ مَنْشَأَ عَذَابِهِمُ الشَّدِيدِ فِي تِلْكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْحَيَاةُ الرُّوحِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى الْحَيَاةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شَاغِلٌ وَلَا مُسَلٍّ مِنَ الْمَادَّةِ عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَحِيمِ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ فَهُوَ بِعِزَّتِهِ يُنْفِذُ سُنَنَهُ فَيَنْتَقِمُ مِمَّنْ خَالَفَهَا بِسُلْطَانِهِ الَّذِي لَا يُعَارَضُ، وَالِانْتِقَامُ مِنَ النِّقْمَةِ وَهِيَ السَّطْوَةُ وَالسُّلْطَةُ، وَيَسْتَعْمِلُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ الِانْتِقَامَ بِمَعْنَى التَّشَفِّي بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -.