آيات من القرآن الكريم

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ

قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ ﴾؛ قرأ الأعمشُ وحمزة والكسائيُّ وخَلَفُ وقتادةُ: (فَنَادَاهُ)، وقرأ الباقون: (فَنَادَتْهُ)، وإذا تقدَّمَ الفعلُ فأنتَ فيه بالخيار؛ إنْ شِئْتَ أنَّثْتَ؛ وإنْ شئتَ ذكَّرْتَ. ومعنى الآيةِ: فناداهُ جبريلُ عليه السلام وهو قائمٌ يُصَلِّي في المسجدِ بأنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بولدٍ اسْمُهُ يَحْيَى. والمرادُ بالملائكةِ هنا جِبْرِيْلَ وحدَه؛ ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ ﴾[آل عمران: ٤٢] يعني جبريلَ وحدَهُ، وقَوْلُهُ:﴿ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ ﴾[النحل: ٢] يعني جبريلَ وحدَه.
﴿ بِٱلْرُّوحِ ﴾ أي بالوَحْي، يدلُّ عليه قراءةُ ابنِ مسعود: (فَنَادَاهُ جِبْرِيْلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ والأعمشُ وحمزة: (إنَّ اللهَ) بكسر الألفِ على إضمار القول؛ تقديرهُ: فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ فقالَتْ: إنَّ اللهَ، لأنَّ النداءَ قولٌ، وقرأ الباقون بالفتح بوقوعِ النِّداء عليه كأنَّهُ قالَ: فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ بأنَّ اللهَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُبَشِّرُكَ ﴾ قرأ حمزةُ والكسائي (يُبَشُرُكَ) بفتح الياء وجزمِ الباء وضمِّ الشين، وقرأ الباقون بضمِّ الياءِ وفتح البَاء وتشديدِ الشِّين وكسرِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً ﴾؛ انتصبَ على الحالِ في قوله: ﴿ بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ يعني عيسَى عليه السلام؛ أنَّ يَحيى مصدِّقاً بعيسى، وكانَ يَحيى أوَّلَ مَن صدَّق بعيسَى وشَهِدَ أنَّه كلمةُ اللهِ وروحُه، وكان يحيى أكبرَ من عيسى بثلاثِ سنين، وقيلَ: بستَّة أشهرٍ. واختلفُوا في تسمية يَحيى بهذا الاسمِ؛ فقالَ ابنُ عبَّاس: (لأنَّ اللهَ تَعَالَى حَيَى بهِ عُقْرَ أمِّهِ). وقالَ قتادةُ: (لأنَّ اللهَ أحْيَا قَلْبَهُ بالإيْمَانِ). وقيل: بالنبوَّة. وقيل: إنَّ الله تعالى أحيَى قلبَه بالطاعةِ حتى لَم يَعْصِ ولَم يَهُمَّ بمعصيةٍ. قالَ صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إلاَّ وَقَدْ هَمَّ بخَطِيَّةٍ أوْ عَمِلَهَا إلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَإنَّهُ لَمْ يَهُمَّ بهَا ولَمْ يَعْمَلْهَا "وقال بعضُهم: سُمِّي بذلكَ لأنه اسْتُشْهِدَ، والشهداءُ أحياءٌ عند ربهم يرزقون. قال صلى الله عليه وسلم:" مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أنَّ عِيْسَى قَتَلَتْهُ امْرَأةٌ، وَقُتِلَ يَحْيَى قَبْلَ رَفْعِ عِيْسَى عليه السلام "قوله تعالى: ﴿ بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ إنَّما سُمي عيسَى كَلِمَةً؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ لهُ كُنْ مِن غيرِ أبٍ فكانَ، فوقعَ عليه اسمُ الكلمة. قولُه تعالى: ﴿ وَسَيِّداً ﴾ السيِّدُ في اللغة وفي الحقيقةِ: مَنْ تَلْزَمُ طَاعَتُهُ وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ الاقْتِدَاءُ وَالْقَفَا بهِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْعِبَادَةِ. وقال الضحَّاكُ: (السَّيِّدُ: الْحَسَنُ الْخُلُقِ). وقال ابنُ جبير: (السَّيِّدُ: الَّذِي يُطِيْعُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ). وقال ابنُ المسيَّب: (السَّيِّدُ: الْفَقِيْهُ الْعَالِمُ). وقال سفيان: (هُوَ الَّذِي لاَ يَحْسِدُ)، وقال عكرمةُ: (هُوَ الَّّذِي لاَ يَغْضَبُ)، وقال ذُو النُّونِ: (الْحَسُودُ لاَ يَسُودُ)، وقال الخليلُ: (سَيِّداً أيْ مُطَاعاً)، وقيل: السيِّدُ: القانِعُ بما قَسَمَ اللهُ، وقيل: هو الرَّاضِي بقضاءِ الله، وقيل: المتوكِّلُ على اللهِ. وقال أبو يزيدِ البُسْطَامِي: السيدُ هو الذي قد عَظُمَتْ هِمَّتُهُ؛ ونَبُلَ قدرهُ أن يحدِّثَ نفسَه بدار الدنيا، وقيل: هو السَّخِيُّ." قال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟ " قَالُواْ: جِدُّ بْنُ قَيْسٍ إلاَّ أنَّهُ بَخِيْلٌ: قَالَ: " وَأَيُّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ ". قوله تعالى: ﴿ وَحَصُوراً ﴾ الْحَصُورُ: هُوَ الَّذِي لاَ يَأْتِي النِّسَاءَ، وهذا قولُ ابنِ مسعود وابنِ عبَّاس وابن جبير وقتادةَ وعطاءٍ والسديِّ والحسنِ؛ يعنِي أنهُ يَحْصِرُ نفسَه عن الشَّهواتِ. وقال ابنُ المسَّيب والضحَّاك: (هُوَ الْعَنِّيْنُ الَّذِي مَا لَهُ ذكَرٌ قَوِيٌّ)، ودليلُ هذا التأويلِ ما روى أبو هُريرة، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" " كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَلْقَى اللهَ بذنْبٍ قَدْ أذْنَبَهُ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ أوْ يَرْحَمُهُ إلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا؛ فَإنَّهُ كَانَ سَيِّداً وحَصُوراً؛ ﴿ وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ ". ثُمَّ أهْوَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى قَذاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَأَخَذهَا وَقَالَ: " كَانَ ذكَرُهُ مِثْلَ هَذِهِ الْقَذاةِ " ". وقال الْمُبَرِّدُ: الْحَصُورُ: هُوَ الَّذِي لاَ يَدْخُلُ فِي اللَّعِب وَالْعَبَثِ وَالأَبَاطِيْلِ، وَقَدْ يُسَمَّى كَاتِمُ السرِّ حَصُوراً، والذي لا يدخلُ مع الناسِ في الْمَيْسِرِ حَصُوراً لامتناعهِ من ذلك، وأصلهُ من الحصيرِ وهو الجسدُ؛ يقال: حَصَرْتُ الرَّجُلَ عَنْ حَاجَتِهِ إذا حَبَسْتُهُ، وحَصَرَ في قِرَانِهِ إذا امتنعَ من اللقواة فلم يقدِرْ عليها، ومنه إحْصَارُ العدوِّ، قال اللهُ تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾[الإسراء: ٨] أي مَحْبَساً. ويسمَّى الحصيرُ حصيراً لأنه أدْخِلَ بعضُه في بعضٍ بالنسجِ وحُبسَ بعضُه على بعضٍ. وأوْلَى مَا قيلَ في تفسيرِ قولهِ تعالى: ﴿ وَحَصُوراً ﴾: هو الذي لاَ يَأْتِي النِّسَاءَ، يَحْبسُ نفسَه عن ذلك اختياراً، فهذا التأويلُ أولَى من تأويلِ بعضهم أنهُ لا شهوةَ لهُ؛ لِما في هذا مِن إضافةِ عَيْب الْعُنَّةِ إليهِ.

صفحة رقم 295
كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
عرض الكتاب
المؤلف
أبو بكر الحداد اليمني
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية