
﴿فنادته الْمَلَائِكَة﴾، وَيقْرَأ: " فناداه الْمَلَائِكَة " بِالْألف وَاخْتلفُوا فِي المنادى، مِنْهُم من قَالَ: كَانَ جِبْرِيل. وَمِنْهُم من قَالَ: جمع من الْمَلَائِكَة ﴿وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب أَن الله يبشرك﴾ يقْرَأ " أَن " بِكَسْر الْألف وَفتحهَا، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ، فتقديره: فنادته الْمَلَائِكَة وَقَالُوا: إِن الله يبشرك، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح، فَهُوَ على النسق، ﴿يبشرك﴾ يقْرَأ مخففا ومشددا، وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء.
والبشارة: خبر سَار يظْهر أَثَره على بشرة الْوَجْه، ﴿يبشرك بِيَحْيَى﴾ سَمَّاهُ يحيى قبل أَن يُولد، ﴿مُصدقا بِكَلِمَة من الله﴾ قيل: مُصدقا بِكِتَاب الله وَكَلَامه. وَقيل: مَعْنَاهُ مُصدقا بِعِيسَى، وَهُوَ كلمة الله فَإِن قَالَ قَائِل: " كلمة الله " لَا يكون مخلوقا، وَقد أَنْكَرْنَا على النَّصَارَى قَوْلهم: " الْمَسِيح ابْن الله "، وَقَوْلهمْ: " إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة "، فَكيف نَعْرِف أَن عِيسَى كلمة الله؟ قيل: فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهمَا: أَنه كلمة الله على معنى: أَنه يكون بِكَلِمَة من الله حَيْثُ قَالَ لَهُ: " كن فَكَانَ "، من غير سَبَب وَلَا عِلّة، وصنع بشر وإلقاء نُطْفَة.
الثَّانِي: أَنه كلمة الله على معنى: أَنه يهتدى بِهِ، كَمَا يهتدى بِكَلَام الله.
وَالثَّالِث: أَن الله تَعَالَى كَانَ قد أخبر سَائِر الْأَنْبِيَاء، وَوَعدهمْ فِي كتبه أَنه يخلق نَبيا بِلَا أَب، ووعد مَرْيَم أَنه يُولد لَهَا ولد بِلَا أَب، فَلَمَّا تكون عِيسَى سَمَّاهُ كلمة؛ لِأَنَّهُ حصل بِتِلْكَ الْكَلِمَة، وَذَلِكَ الْوَعْد، وَهُوَ كَمَا تَقول الْعَرَب: أَنْشدني كلمتك، أَي: قصيدتك، وَقيل لحسان: إِن الحوديرة أنشأ قصيدة، فَقَالَ: لعن الله كَلمته، أَي:

﴿الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين (٣٩) قَالَ رب أَنى يكون لي غُلَام وَقد بَلغنِي الْكبر وامرأتي عَاقِر قَالَ كَذَلِك الله يفعل مَا يَشَاء (٤٠) قَالَ رب اجْعَل لي آيَة قَالَ﴾
قصيدته، فَلَمَّا حصلت القصيدة بكلمته سمى ذَلِك كلمة.
قَوْله: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين﴾ أما السَّيِّد: قَالَ سعيد بن جُبَير: السَّيِّد: التقي، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْكَرِيم، وَقيل: هُوَ الْعَلِيم الَّذِي لَا يغضبه شَيْء، وَقيل: هُوَ الَّذِي يفوق قومه فِي جَمِيع خِصَال الْخَيْر.
والحصور: قَالَ سعيد بن جُبَير وَمُجاهد وَالضَّحَّاك وَعَطَاء وَجَمَاعَة: هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاء، والحصور بِمَعْنى: المحصور، وَكَانَ مَمْنُوعًا من النِّسَاء، وَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر
(فِيهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حلوبة | سُودًا كخافية الْغُرَاب الأسحم) |
واختاروا هَذَا القَوْل لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه يكون أقرب إِلَى اسْتِحْقَاق الثَّنَاء، لِأَن الْكَلَام خرج مخرج الثَّنَاء.
وَالثَّانِي: أَنه يكون أبعد من إِلْحَاق الآفة بالأنبياء؛ لبعدهم عَن الْآفَات. صفحة رقم 316