
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا موفَّرًا،"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا" = يعني غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم.
* * *
وكان قتادة يقول في معنى قوله:"محضرًا"، (١) ما:-
٦٨٤٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا"، يقول: موفَّرًا.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم [بعض] أهل العربية أنّ معنى ذلك: (٢) واذكر يوم تجد. وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه في القرآن في غير موضع:"واتقوا يوم كذا، وحين كذا".
* * *
وأما"ما" التي مع"عملت"، فبمعنى"الذي"، ولا يجوز أن تكون جزاءً، لوقوع"تجد" عليه. (٣) وأما قوله:"وما عملت من سوء"، فإنه معطوف على قوله:"ما" الأولى، و"عملت" صلةٌ بمعنى الرّفع، لمَّا قيل:"تود". (٤)
(٢) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(٣) الوقوع: التعدي، وقد سلف شرح ذلك فاطلبه في فهرس المصطلحات.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "كما قيل تود"، والصواب ما أثبت. وقد استظهرت قراءتها من كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٢٠٦، ونص كلامه: "وقوله وما عملت من سوء - فإنك ترده أيضًا على (ما)، فتجعل (عملت) صلة لها في مذهب رفع لقوله (تود لو أن بينها) "، ويعني بذلك أن جملة"تود" مفعول ثان لقوله: "تجد"، كما كان"محضرًا" مفعولا ثانيًا. وسيأتي ذلك بعد قليل في تفسيره.

فتأويل الكلام: يوم تَجد كل نفس الذي عملت من خير محضرًا، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا
* * *
"والأمد" الغاية التي ينتهي إليها، ومنه قول الطرماح:
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ الـ | عُمْرِ، ومُودٍ إِذَا انْقَضَى أَمَدُهْ (١) |
٦٨٤١ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، مكانًا بعيدًا.
٦٨٤٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أمدًا بعيدًا"، قال: أجلا.
٦٨٤٣ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا
تَرَكَ الدَّهْرُ أهلَهُ شُعَبًا | فَاسْتمَرَّتْ مِنْ دُونِهِمْ عُقَدُهْ |
وَكذَاكَ الزَّمَانُ يَطْرُدُ بالنَّاسِ | إلى اليَوْمِ، يَوْمُهُ وغَدُهْ |
لاَ يُلِيثَانِ بِاخْتِلاَفِهِمَا المَرْءَ، | وَإنْ طَالَ فِيهِمَا أَمَدُهْ |
كُلُّ حَيٍّ مُستَكْمِلٌ عِدَّةَ العُمْرِ، | وَمُودٍ إذَا انْقَضَى عَدَدُهْ |

عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، قال: يسر أحدَهم أن لا يلقى عمله ذاكَ أبدًا يكونُ ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئةً يستلذّها. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: (٢) تحذيرُه إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه، كما:-
٦٨٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن في قوله:"ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد"، قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه. (٣)
* * *
(٢) في المطبوعة: "ومن رأفته بهم"، وفي المخطوطة: "وأرض رأفته بهم"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٣) الأثر: ٦٨٤٤-"والحسن"، هو الحسن البصري بلا ريب، فقد نسب هذا الأثر إليه ابن كثير في تفسيره ٢: ١٢٥، والسوطي في الدر المنثور ٢: ١٧، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عمرو بن الحسن"، فظهر أنه خطأ لا شك فيه. أما "عمرو"، فلم أستطع أن أقطع من يكون، فمن روى عن الحسن، ممن اسمه"عمرو" كثير.