
وقوله: نَفْسَهُ: نائبةٌ عن «إيَّاهُ»، وهذه مخاطبةٌ على معهود ما يفهمه البشَرُ، والنَّفْسُ في مثْلِ هذا راجعٌ إِلى الذاتِ، وفي الكلامِ حذْفُ مضافٍ لأن التحذير إِنما هو من عقابٍ وتنكيلٍ ونحوه، قال ابنُ عَبَّاس، والحسن: / ويحذِّركم اللَّه عقابه «١».
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ... الآية: الضميرُ في «تُخْفُوا» هو للمؤمنين الذين نُهُوا عن الكافرين، والمعنى: إِنكم إِن أبطنتم الحرْصَ على إِظهار موالاتهم، فإِن اللَّه يعلم ذلك، وَيَكْرَهُهُ منكم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
وقوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، قال ابنُ هِشَامٍ في «المُغْنِي» :«يَوْم» : نصْبٌ بمحذوفٍ، تقديره: اذكُروا أو احذروا، ولا يصحُّ أنْ يكون ظرفًا ل «يحذِّركم» كما زعم بعضُهم لأن التحذير في الدنيا وَقعَ لا في الآخرة. اهـ.
وقوله تعالى: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، يحتمل أنْ تكون «مَا» معطوفةً على «مَا» الأولى، فهي في موضعِ نَصْب، ويكون «تَوَدُّ» في موضعِ الحالِ، وإِليه ذهب الطبريُّ «٢» وغيره، ويحتملُ أنْ تكون «مَا» رُفِعَ بالاِبتدَاء، والخبر في قوله: «تَوَدُّ». وما بعده، والأَمَدُ:
الغايةُ المحْدُودة من المكانِ أو الزَّمَان.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يحتمل أنْ يكون إشارةً إِلى أنَّ تحذيره رأْفَةٌ منه سبحانه بعباده، ويحتملُ أنْ يكونَ ابتداء إِعلام بهذه الصفَةِ، فمقتضى ذلك: التأنيسُ لئلا يفرطَ الوعيدُ على نَفْس مؤمن، فسبحانه ما أرحمه بعباده!.
وعن مَنْصُورِ بْنِ عَمَّار «٣» أنه قال: أعقلُ النّاس محسن خائف، وأجهل النّاس مسيء
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٢٣٠).
(٣) منصور بن عمّار بن كثير الواعظ، البليغ الصّالح، الرّبّاني، أبو السّريّ السّلمي، الخراساني، وقيل:
البصري، كان عديم النظير في الموعظة والتّذكير، روى عن اللّيث، وابن لهيعة، ومعروف الخيّاط، وهقل بن زياد، والمنكدر بن محمد، وبشير بن طلحة وجماعة، ولم يكن بالمتضلّع من الحديث.
قال أبو حاتم: صاحب مواعظ، ليس بالقوي.
وقال ابن عدي: حديثه منكر.
وقال الدّارقطني: يروي عن ضعفاء أحاديث لا يتابع عليها. -

آمنٌ، فلما سمع عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَان «١» منْه هذا الكلامَ بكى حتى بَلَّ ثيابه، ثم قال له:
اتل عَلَيَّ، يا مَنْصُورُ، شَيْئاً منْ كتابِ اللَّهِ، فتلا عليه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً... الآيَةَ، فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ: قَتَلْتَنِي، يَا مَنْصُورُ، ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ. اهـ.
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي... الآية: قال الشيخُ العارفُ باللَّه ابْنُ أبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه) : مِنْ علامةِ السعادةِ للشخْصِ: أنْ يكون مُعْتَنِياً بمعرفة السُّنَّة في جميعِ تصرُّفاته، والذي يكونُ كذلك هو دائمٌ في عبادة في كلِّ حركاته وسكناته، وهذا هو طريق أهل الفَضْلِ حتى حُكِيَ عن بعضهم أنه لم يأكُلِ البطِّيخَ سنين لَمَّا لَمْ يبلُغْه كيفيَّةُ السُّنَّة في أَكْله، وكيف لاَ، واللَّه سبحانه يَقُولُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ والاِتباعية الكاملةُ إِنما تصحُّ بأنْ تكون عامَّة في كلِّ الأشياء، يعني: إِلا ما خصَّصه به الدليلُ، جعلنا اللَّه من أهْلها في الدَّارَيْن. انتهى.
قال ع «٢» : قال الحَسَنُ بْنُ أَبِي الحَسَنِ، وابنُ جريج: إنّ قوما على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا، فنزلَتْ هذه الآية، وقيل: أمر صلّى الله عليه وسلّم أنْ يقولَ هذا القولَ لنصارى نَجْرَان.
قال ع «٣» : ويحتملُ أنْ تكون الآيةُ عامَّة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدَّعُون أنَّهم يحبُّون اللَّه، ويحبهم.
قال عِيَاضٌ: اعلم أَنَّ مَنْ أَحبَّ شيئاً، آثره، وآثر موافقته، وإِلا لم يكن صادقاً في حُبِّه، وكان مدَّعياً، فالصادق في حبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، مَنْ تظهر علاماتُ ذلك عليه، وأولُها الاِقتداءُ به، واتباع سنَّته، واتباع أقوالِهِ وأفعالِهِ، والتأدُّبُ بآدابه في عُسره ويُسْره قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي... الآية، قال عياض: روي في الحديث، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «مَنِ استمسك بِحَدِيثِي، وَفَهِمَهُ وَحَفِظَهُ، جاء مع القرآن، ومن
(١) عبد الملك بن مروان بن الحكم، الأموي، القرشي، أبو الوليد: من أعاظم الخلفاء ودهاتهم، نشأ في «المدينة» فقيها واسع العلم، متعبدا، ناسكا، وشهد يوم الدار مع أبيه، نقش خاتمه «آمنت بالله مخلصا» توفي ب «دمشق» سنة ٨٦ هـ. انظر: «ابن الأثير» (٤/ ١٩٨)، و «الطبري» (٨/ ٥٦)، و «الأعلام» (٤/ ١٦٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٢١- ٤٢٢).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٢٢).

تَهَاوَنَ بالقُرْآنِ، وَحَدِيثِيَ، / خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ... » الحديثَ «١»، وعن أبي هريرةَ (رضي اللَّه عنه)، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «المُسْتَمْسِكُ بسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي، لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ» «٢»، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: «عليكُمْ بالسبيلِ والسُّنَّةِ، فإِنه ما على الأرضِ من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله في نَفْسِهِ، ففاضَتْ عيناه مِنْ خَشْية ربه، فيعذِّبه اللَّه أبداً، وما على الأرضِ مِنْ عبد على السبيل والسنة، ذكر الله في نَفْسه، فاقشعر جِلْدُهُ مِنْ خَشْية اللَّه، إلا كان مَثَلُهُ كَمَثَلِ شجرة، قَدْ يَبِسَ ورَقُهَا، فهي كَذَلِكَ إِذ أصابتها ريحٌ شديدةٌ فتحاتَّ عنها ورقُها إِلاَّ حَطَّ اللَّه عنه خَطَايَاهُ كما تَحَاتَّ عن الشجرة وَرَقُهَا... » الحديث.
قال عياض: ومن علامات محبّته صلّى الله عليه وسلّم: زُهْدُ مدَّعيها في الدُّنْيا، وإِيثاره الفَقْر، واتصافه فيه ففي حديثِ أبي سَعِيدٍ: «إِنَّ الفَقْرَ إلى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْكُمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ مِنْ أَعْلَى الوَادِي، أَوِ الجَبَل إلى أَسْفَلِهِ» «٣»، وفي حديثِ عبدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ «٤» :«قال رجُلٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إٍنِّي أُحِبُّكَ، فَقَالَ: انظر مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لأُحِبُّكَ» ثَلاَثَ مَرَّات قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي، فَأَعِدَّ لِلفَقْرِ تَجْفَافاً»، ثم ذكر نَحْوَ حديثِ أبِي سَعِيدٍ بمعناه «٥» اهـ من «الشّفا».
(٢) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٢/ ٧٣٩) من طريق الحسن بن قتيبة عن عبد الخالق بن المنذر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا.
وذكره الذهبي في «الميزان» (١/ ٥١٩) في ترجمة الحسن، وقال: هالك. قال الدارقطني: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف.
(٣) أخرجه أحمد (٣/ ٤٢) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٤) هو: عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني. قال البخاري: له صحبة، سكن «البصرة»، وهو أحد البكائين في غزوة «تبوك»، وشهد بيعة الشجرة، ثبت ذلك في الصحيح، وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقه الناس ب «البصرة». وهو أول من دخل مدينة «تستر» قال ابن الأثير: روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث. وروى عنه: الحسن البصري، وأبو العالية، ومطرف، ويزيد بن عبد الله بن الشخير، وعقبة بن صهبان.. وغيرهم.
توفي ب «البصرة» سنة (٥٩ هـ)، وقيل: سنة (٦٠ هـ).
تنظر ترجمته في: «الثقات» (٣/ ٢٣٦)، «أسد الغابة» (٣/ ٣٩٨)، «الاستبصار» (٢٢٥)، «الجرح والتعديل» (٥/ ١٤٩)، «التحفة اللطيفة» (٢/ ٢٣)، «الإصابة» (٤/ ١٣٢)، «تقريب التهذيب» (١/ ٤٥٣)، «تهذيب التهذيب» (٦/ ٤٢)، «بقي بن مخلد» (٧٥)، «التاريخ الصغير» (١/ ١٢٨)، «التعديل والتجريح» (٧٧٦)، «الخلاصة» (٢/ ١٠٣)، «الاستيعاب» (٣، ٤/ ٩٩٦).
(٥) أخرجه الترمذي (٤/ ٥٧٦- ٥٧٧) كتاب «الزهد»، باب ما جاء في فضل الفقر، حديث (٢٣٥٠) من طريق أبي الوازع عن عبد الله بن مغفل به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأبو الوازع الراسبي اسمه جابر بن عمرو، وهو بصري. [.....]