
ذلِكَ التولي والإعراض بسبب تسهيلهم «١» على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل كما طمعت المجبرة والحشوية «٢» وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أنّ آباءهم هم الأنبياء يشفعون لهم كما غرت أولئك شفاعة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في كبائرهم فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ فكيف يصنعون فكيف «٣» تكون حالهم، وهو استعظام لما أعدّ لهم وتهويل لهم، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه والمخلص منه، وأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون. وروى أنّ أوّل راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود، فيفضحهم اللَّه على رؤس الأشهاد، ثم يأمر بهم إلى النار وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يرجع إلى كل نفس على المعنى، لأنه في معنى كل الناس كما تقول: ثلاثة أنفس، تريد ثلاثة أناسى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
الميم في اللَّهُمَّ عوض من يا، ولذلك لا يجتمعان. وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم، وبدخول حرف النداء عليه، وفيه لام التعريف، وبقطع همزته في يا اللَّه، وبغير ذلك مالِكَ الْمُلْكِ أى تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرّف الملاك فيما يملكون تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ تعطى من تشاء النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك من الملك وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ النصيب الذي أعطيته منه، فالملك الأوّل عام شامل، والملكان
(٢). قوله «كما طمعت المجبرة والحشوية» تورك على أهل السنة، حيث ذهبوا الى أن من دخل النار من أهل الكبائر المؤمنين يخرج بالشفاعة أو بعفو اللَّه، كما نطقت به الأحاديث. (ع)
(٣). قوله «فكيف تكون» لعله أو فكيف. (ع)

الآخران خاصان بعضان من الكل: روى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ «١» هم أعز وأمنع من ذلك. وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما خط الخندق «٢» عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يخبره، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدّعتها «وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر وكبر المسلمون وقال: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرنى جبريل عليه السلام أن أمّتى ظاهرة على كلها، فأبشروا. فقال المنافقون: ألا تعجبون، يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزلت. فإن قلت: كيف قال بِيَدِكَ الْخَيْرُ فذكر الخير دون الشر؟ قلت: لأنّ الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك، ولأن كل أفعال اللَّه تعالى من نافع وضارّ صادر عن الحكمة والمصلحة، فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه. ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحىّ والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب على أنّ من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم وفي بعض الكتب: أنا اللَّه ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعونى جعلتهم لهم رحمة، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن
(٢). أخرجه البيهقي. وأبو نعيم في دلائل النبوة لهما من طريق كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده. قال «خط رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الخندق عام الأحزاب، ثم قطع أربعين ذراعا بين كل عشرة» قال عمرو بن عوف، فكنت أنا وسليمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وستة نفر من الأنصار في أربعين ذراعا فذكره مطولا من هذا الوجه. ذكره الواحدي في أسباب النزول والطبري والثعلبي والبغوي. ورواه ابن سعد في الطبقات في ترجمة سلمان. قال: أخبرنا ابن أبى فديك عن كثير بن عبد اللَّه به. وقال الواقدي في المغازي: حدثني عاصم ابن عبد اللَّه الحكمي عن عمر بن الحكم قال «كان عمر بن الخطاب يومئذ يضرب بالمعول، إذ صادف حجراً أصلد فضرب ضربة- فذكره بنحوه» ورواه النسائي وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى كلهم من رواية ميمون أبى عبد اللَّه عن البراء بن عازب رضى اللَّه عنهما مختصرا وإسناده حسن.