
ترك ذكره، أجزأت دلالةُ دخول"اللام" في"اليوم" عليه، منه. (١) وليس ذلك مع"في"، فلذلك اختيرت"اللام" فأدخلت في"اليوم"، دون"في". (٢)
* * *
وأما تأويل قوله:"لا ريب فيه"، فإنه: لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٣)
* * *
وعنى بقوله:"ووُفِّيت"، ووَفَّى الله ="كلُّ نفس ما كسبت"، يعني: ما عملت من خير وشر (٤) ="وهم لا يظلمون"، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾
قال أبو جعفر: أما تأويل:"قل اللهم"، فإنه: قل يا محمد: يا اللهُ.
* * *
واختلف أهل العربية في نصب"ميم""اللهم"، وهو منادًى، وحكم المنادى المفرد غير المضافِ الرفعُ = وفي دخول"الميم" فيه، وهو في الأصل"الله" بغير"ميم".
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٢، ٢٠٣، وعبارته هناك."تقول في الكلام: جمعوا ليوم الخميس، وكأن اللام لفعل مضمر في"الخميس"، كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس. وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس = لم تضمر فعلا. وقوله: جمعناهم ليوم لا ريب فيه = أي للحساب والجزاء".
(٣) انظر ما سلف ١: ٢٢٨، ٣٧٨ / ثم ٦: ٢٢١.
(٤) انظر تفسير"كسب" فيما سلف ٢: ٢٧٣، ٢٧٤ / ٣: ١٠١، ١٢٨ / ٤: ٤٤٩ / ٦: ١٣١.

فقال بعضهم: إنما زيدت فيه"الميمان"، لأنه لا ينادى بـ"يا" كما ينادى الأسماء التي لا"ألف" فيها ولا"لام". وذلك أن الأسماء التي لا"ألف" ولا"لام" فيها تنادى بـ"يا" كقول القائل:"يا زيد، ويا عمرو". قال: فجعلت"الميم" فيه خلفًا من"يا"، كما قالوا:"فم، وابنم، وهم، وزُرْقُم، (١) وُسْتهُم"، (٢) وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف، ثم يبدل مكانه"ميم". قال: فكذلك حذفت من"اللهم""يا" التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا، وجعلت"الميم" خلفًا منها في آخر الاسم.
* * *
أما قوله: "وهم"، فلم أعرف لها وجهًا أرتضيه، وهذه الكلمة جاءت في كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٢٠٣، وستأتي أيضًا كذلك بعد أسطر. وقد راجعتها في نسختي مخطوطة معاني القرآن، فإذا هي كذلك"وهم"، وعلى الميم شبيه بالشدة في النسختين المخطوطتين، وأغفلت ذلك المطبوعة. وقد وقف ناشر معاني القرآن عليها، فعلقوا بما نصه: (كأنه يريد"هم" الضمير، وأصلها"هوم"، إذ هي جمع"هو"، فحذفت الواو وزيدت ميم الجمع، وإن كان هذا الرأي يعزي إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية في مبحث الضمائر)، وعلق بعض طابعي تفسير الطبري بما يأتي: (قوله: "ودم" كذا في النسخ، والكلمتان دم، وهم، لعلهما محرفتان عن: ابنم، ودلهم، أو دلقم، من الكلمات التي زيدت في آخرها الميم، وذكرها السيوطي في المزهر ٢: ١٣٥).
والذي قاله ناشرو معاني القرآن، لا يقوم، لأن الميم في هم، وإن كانت زائدة من وجه، إلا أنها أتى بها لمعنى هو غير ما جاءت به الزيادة في"فم" و"ابنم"، ولعلة اختلف عليها النحويون اختلافًا كثيرًا. وأما ما قاله ناشر الطبري من أنها محرفة عن"دلهم أو دلقم"، فليس بشيء، لأن مطبوعات الطبري ومخطوطاته قد اتفقت عليه، وعجيب أن يتفق تصحيفها، وتصحيف نسختين من معاني القرآن، الذي ينقل الطبري نص كلامه. وبعد هذا كله أجدني عاجزًا كل العجز عن معرفة أصل هذه الكلمة، وعن وجه يرتضى في تصحيفها أو تحريفها أو قراءتها، وقد استقصيت أمرها ما استطعت، ولكني لم أنل إلا النصب في البحث، فعسى أن أجد عند غيري من علمها ما حرمني الله علمه، وفوق كل ذي علم عليم.
(٢) "زرقم، وستهم" (كلتاهما بضم الأول وسكون الثاني وضم الثالث) : رجل زرقم وامرأة زرقم، أزرق شديد الزرق. فلما طرحت الألف من أوله، زيدت الميم في آخره. وكذلك"رجل ستهم وامرأة ستهم": أسته، وهو العظيم الاست، الكبير العجز، فعل به ما فعل بصاحبه. وقال الراجز في امرأة:
لَيْسَتْ بِكَحْلاَءَ وَلَكِنْ زُرْقُمُ | وَلا بِرَسْحَاءَ وَلَكِنْ سُتْهُمُ |
مُبَارَكٌ هُوَّ وَمَنْ سَمَّاهُ | عَلَى اسْمِكَ اللُّهُمَّ يَا أَللهُ (١) |
كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبى رِيَاٍح | يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الكُبَار (٣) |
يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبَارُ
(٢) هو الأعشى.
(٣) ديوانه: ١٩٣، ومعاني القرآن ١: ٢٠٣، والخزانة ١: ٣٤٥، واللسان (أله)، وغيرها. من قصيدة يعاتب بها بني جحدر، وكانت بينه وبينهم نائرة، ذكرها في قصائد من شعره. وقبل البيت وهو أول القصيدة:
أَلَمْ تَرَوْا إِرَمًا وَعَادًا | أَوْدَى بِها اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ |
بَادُوا، فلمَّا أنْ تآدَوْا | قَفَّى عَلَى إِثْرِهِمْ قُدَارُ |
كَحَلْفةٍ.......... | ................... |
أَقْسَمتُمُ لا نُعْطِيَّنكُمْ | إِلاّ عِرَارًا، فَذَا عِرَارُ |

وقد أنشده بعضهم: (١) يَسْمَعُهَا اللهُ واللهُ كُبَارُ (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا مالك الملك، يا منْ له مُلك الدنيا والآخرة خالصًا دون وغيره، كما:-
٦٧٨٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"قل اللهم مالك الملك"، أي رَبَّ العباد الملكَ، لا يقضى فيهم غيرك. (٣)
* * *
وأما قوله:"تؤتي الملك ممن تشاء"، فإنه يعني: تُعطى الملك من تَشاء، فتملكه وتسلِّطه على من تشاء.
وقوله:"وتنزع الملك من تشاء"، يعني: وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، (٤)
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "يسمعها الله والكبار"، وهو خطأ من الناسخ، والصواب ما في معاني القرآن للفراء ١: ٢٠٣، والذي مضى جميعه هو من نص كلامه مع قليل من التصرف. وكذلك رواها شارح ديوانه، وكذلك سائر الكتب. وروى أبو عبيدة: "يسمعها الواحد الكبار".
(٣) الأثر: ٦٧٨٩- سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٧، ونصه: "أي رب العباد، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره"، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: ٦٧٧٦.
(٤) سقط من المطبوعة: "يعني: وتنزع الملك ممن تشاء"، فأثبتها من المخطوطة.

فترك ذكر"أن تنزعه منه"، اكتفاءً بدلالة قوله:"وتنزع الملك ممن تشاء"، عليه، كما يقال:"خذ ما شئتَ = وكنْ فيما شئت"، يراد: خذ ما شئت أن تأخذه، وكن فيما شئت أن تكون فيه؛ وكما قال جل ثناؤه: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار: ٨] يعني: في أيّ صورة شاءَ أن يركبك فيها ركبك. (١)
* * *
وقيل: إنّ هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ جوابًا لمسألته ربَّه أن يجعل مُلك فارسَ والروم لأمته. (٢)
ذكر من قال ذلك:
٦٧٩٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وذكر لنا: أن نبيّ الله ﷺ سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارسَ والروم في أمته، فأنزل الله عز وجل:"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء" إلى"إنك على كل شيء قدير".
٦٧٩١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: ذُكر لنا والله أعلم: أنّ نبيّ الله ﷺ سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، ثم ذكر مثله.
* * *
وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى"الملك" في هذا الموضع: النبوة.
ذكر الرواية عنه بذلك:
٦٧٩٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء"، قال: النبوّة.
(٢) انظر تفسير"الملك" فيما سلف ١: ١٤٨، ١٤٩ / ٢: ٤٨٨ / ٥: ٣١٢، ٣١٥، ٣٧١.

٦٧٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"وتعز من تشاء"، بإعطائه الملك والسلطان، وَبسط القدرة له ="وتذلّ من تشاء" بسلبك ملكه، وتسليط عدوه عليه ="بيدك الخير"، أي: كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّا، كما:-
٦٧٩٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"تؤتي الملك من تشاء"، الآية، أي: إنّ ذلك بيدك لا إلى غيرك (١) ="إنك على كل شيء قدير"، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وُقدْرَتك. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ٦٧٩٤- سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٧ وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: ٦٧٨٩.