
بشيء، فحذف الجارّ ونصبه، وجعل لمن بدّل الكفر بالإيمان
عذابا أليماً، وهو أبلغ مما جعله للفرقة الأولى، حيث وصفه
بالعِظَم، إذ يقال العظيم اعتباراً بغيره مما هو من جنسه، وقد لا
يكون شديد الألم، وأليم يقال لما تناهى في الألم، إذ هو بناء
المبالغة، ويقال: هو أليم، سواء اعتُبر بغيره أو لم يُعتبر.
قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)

الإملاء إطالة المدة، ومنه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).
وتملّيت حبيبا، وإملاء الكتاب على أحد القولين، والملوان.
وإذا قرئ بالياء فسهل، واذا قرئ بالتاء فصعب، فالذين كفروا
هو المفعول الأول، ولا يصح أن يجُعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) المفعول
الثاني، لأن هذه الأفعال تدخل على مبتدأ وخبر.
ويجبُ أن يكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى.
و (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) ليس في المعنى (الَّذِينَ كَفَرُوا)، ولا يصح أن يجعل بدلاً كما جُعِل في

قوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ).
وفي قوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) فإنه حينئذ يلزم أن ننصب (خيراً) حتى يصير المفعول الثاني، فيجب أن يكون بالياء
أجود، وقد اختلف في تأويل الآية من حيث إن ظاهرها يقتضي

أن الله تعالى يريد بإملائهم أن يكفروا.
قالوا: والله يتعالى عن هذا القصد، مع كون هذه الآية منافية لمقتضى قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

فمنهم من قال: الآية على التقديم والتأخير.
وتقديرها: لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً.
بل إملاؤنا خير لهم، ويكون مفعول (وَلَا يَحْسَبَنَّ)
هو (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وعلق أن، وجعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) كالعِلّة لتأخيرهم، تنبيهاً أن ذلك أولاهم ليصير معونة
لاكتسابهم الخير لأنفسهم، وهذا فاسد، لأن إنما يصح أن
يعلق حيث ما يدخل لام الابتداء في خبره، ومنهم من قال:

الكلام على الترتيب، والمفعول هو (أَنَّمَا) وجعل اللام لام
العاقبة، وتحقيق لام العاقبة هو أن اللام تارة تجيء تبييناً لقصد
الفاعل بفعله نحو (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وتارة تبييناً لما أدى إليه الفعل، لا لقصد الفاعل، نحو (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).
إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (عَذَابٌ مهِين)؟
قيل: لما ذكر هاهنا إملاء الإِنسان في الأعراض الدنيوية.
وذلك قد يكون في الدنيا هواناً وعذاباً