
عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن النبي ﷺ يوم- أحد- وذلك أنه كان من رأي عبد الله بن أبي أن لا يخرج إلى كفار قريش، فلما خرج رسول الله ﷺ بالناس على الوجه الذي قد ذكرناه، قال عبد الله بن أبي: أطاعهم وعصاني، فانخذل بنحو ثلث الناس، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله فقال لهم:
اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، أو نحو هذا من القول، فقال له ابن أبي: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم، فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي ﷺ فاستشهد، واختلف الناس في معنى قوله:
أَوِ ادْفَعُوا فقال السدي وابن جريج وغيرهما معناه: كثروا السواد وإن لم تقاتلوا، فيندفع القوم لكثرتكم، وقال أبو عون الأنصاري: معناه رابطوا، وهذا قريب من الأول، ولا محالة أن المرابط مدافع، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو، والمكثر للسواد مدافع، وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أكثر المسلمين بنفسي، وروي أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو: أَوِ ادْفَعُوا، إنما هو استدعاء القتال حمية، لأنه دعاهم إلى القتال في سبيل الله، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا أهل ذلك، عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة، أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة، ألا ترى أن قزمان قال: والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي، وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم- أحد- لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر في زروع قناة قال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ وكان النبي ﷺ قد أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره بالقتال، فكأن عبد الله بن عمرو بن حرام دعاهم إلى هذا المقطع العربي الخارج عن الدين والقتال في سبيل الله، وذهب جمهور المفسرين إلى أن قوله: أَقْرَبُ مأخوذ من القرب ضد البعد، وسدت- اللام- في قوله: لِلْكُفْرِ، ولِلْإِيمانِ- مسد إلى، وحكى النقاش: أن قوله أَقْرَبُ مأخوذ من القرب بفتح القاف والراء وهو الطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الورد، فاللفظة بمعنى أطلب، واللام متمكنة على هذا القول، وقوله: بِأَفْواهِهِمْ تأكيد، مثل يطير بجناحيه، وقوله: ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يريد ما يظهرون من الكلمة الحاقنة لدمائهم، ثم فضحهم تعالى بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ أي من الكفر وعداوة الدين وفي الكلام توعد لهم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٨ الى ١٧٠]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)
الَّذِينَ بدل من «الذين» المتقدم، و «إخوانهم» المقتولون من الخزرج وهي أخوة نسب ومجاورة،

وقوله تعالى: لِإِخْوانِهِمْ معناه لأجل إخوانهم وفي شأن إخوانهم، ويحتمل أن يكون قوله:
لِإِخْوانِهِمْ للأحياء من المنافقين، ويكون الضمير في أَطاعُونا هو للمقتولين، وقوله: وَقَعَدُوا جملة في موضع الحال وهي حالة معترضة أثناء الكلام، وقوله: لَوْ أَطاعُونا يريد في أن لا يخرجوا إلى قريش، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ما قتّلوا» بشد التاء، وهذا هو القول بالأجلين، فرد الله تعالى عليهم بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا الآية، والدرء الدفع ومنه قول دغفل النسابة: [الرجز]
صادف درء السّيل درءا يدفعه | والعبء لا تعرفه أو ترفعه |
وقرأ جمهور القراء: «ولا تحسبن» بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام، وقرأ حميد بن قيس، «ولا يحسبن» بالياء على ذكر الغائب، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر: ولا يحسبن أحد أو حاسب، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى: ولا يحسب الناس، ويحسبن، معناه يظن، وقرأ الحسن: «الذين قتّلوا»، بشد التاء، وابن عامر من السبعة، وروي عن عاصم أنه قرأ: «الذين قاتلوا» بألف بين القاف والتاء، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، قال الحسن بن أبي الحسن: ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حيا لا يموت بالشهادة في سبيل الله، فقوله: بَلْ أَحْياءٌ مقدمة لقوله: يُرْزَقُونَ إذ لا يرزق إلا حي، وهذا كما تقول لمن ذم رجلا: بل هو رجل فاضل، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل، وقرأ جمهور الناس: «بل أحياء» بالرفع على خبر ابتداء مضمر، أي هم أحياء، وقرأ ابن أبي عبلة، «بل أحياء» بالنصب، قال الزجّاج: ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء، قال أبو علي في الأغفال: ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة.
قال القاضي: فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلا غير المحسبة، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر، وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم، لأن عِنْدَ تقتضي غاية القرب، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه، وورد عن النبي ﷺ أنه قال: أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا، وروي عنه عليه السلام أنه قال: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها.
قال القاضي رحمه الله: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة، يجمعها أنهم يرزقون، وقال عليه السلام:
إنما نسمة المؤمن طير تعلق في ثمار الجنة، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء، والحديث معناه في الشهداء خاصة، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها، وأيضا فإنها لا ترزق، وتعلق معناه: تصيب العلقة من الطعام، وفتح اللام هو من التعلق، وقد رواه القراء في إصابة صفحة رقم 540