
إن كانوا صادقين في هذا الزعم الفاسد فليدفعوا عن أنفسهم الموت وهم أينما يكونوا يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة؟!
المستشهدون والمجاهدون في سبيل الله وجزاؤهم [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٥]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
المفردات:
يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة. لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ

خَلْفِهِمْ
المراد بهم: المقاتلون في سبيل الله ولم يستشهدوا. الْقَرْحُ: الألم الشديد، والمراد به: ما حصل يوم أحد. أَحْسَنُوا الإحسان: إتقان العمل على أكمل وجه. وَاتَّقَوْا أى: أخذوا الوقاية من عذاب الله وخافوا الإساءة والتقصير في العمل. حَسْبُنَا اللَّهُ: كافينا. الْوَكِيلُ: الذي توكل إليه الأمور.
فَانْقَلَبُوا: فرجعوا بسرعة. الشَّيْطانُ هل هو إبليس؟ أو هو نعيم بن مسعود؟
سبب النزول:
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا؟» فقال الله تعالى: «أنا أبلغهم عنكم» فنزلت هذه الآية.
والآيات مرتبطة بما قبلها إذ بعد أن ذكر الله مقالة المنافقين في القتال وقولهم لإخوانهم: لو قعدتم معنا ما قتلتم. أردف هذا بما يلاقيه المقاتلون في سبيل الله خاصة المستشهدين حتى لا يلقوا بالا لأقوال المنافقين وليكون ذلك حثّا للمؤمنين على الجهاد وتربية لهم على نصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله.
المعنى:
ولا تحسبن أن الذين جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا أمواتا لا يبعثون ولا يجازون على ما قدموا، لا: بل هم أحياء بعد استشهادهم مكرمون عند ربهم مختصون بتلك المكانة العليا التي استأثروا بها (فالعندية هنا) عندية مكانة وتشريف لا عندية مكان وحدود. هم أحياء عند ربهم حياة مؤكدة ثابتة بدليل قوله: يُرْزَقُونَ والحياة التي عناها القرآن وأكدها حياة غيبية الله أعلم بها، وليس من الخير البحث في أنها حياة مادية أو روحية بل نؤمن بما جاء به القرآن تاركين التفصيل والجدل فيما لا يجدي.

هؤلاء الشهداء فرحون ومغتبطون بما رأوه من نعيم مقيم وفضل كبير وإكرام جليل من الله لهم، وهم مسرورون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يحظوا بعد بشرف الاستشهاد حينما رأوا ما أعد من الجزاء الأوفى لهم، وهو حياة أبدية ونعيم دائم لا يكدره خوف من وقوع مكروه ولا حزن على فوات محبوب.
وهم يستبشرون ويفرحون بما يتجدد لهم من نعمة الحياة عند ربهم ورزقه لهم ويفرحون بما آتاهم الله من فضله.
الخلاصة: أن الله- سبحانه وتعالى- ذكر الشهداء وأنهم أحياء عنده يرزقون، وأنهم فرحون بما حباهم الله من فضل وكرامة، وهذا الفضل مجمل، تفصيله ما بعده، أى: فضل يعود على إخوانهم في الحرب وفضل يعود عليهم أنفسهم وهو الخاص بهم في دار الكرامة وقد كرر للتأكيد، وفرحون بمن يجاهد في سبيل الله ولم يستشهد بعد، وهم من خلّفوهم في الحرب هؤلاء المجاهدون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ليذهب الخيال في تصورهما كل مذهب ثم ختم الآية بالكلام على إخوانهم في الجهاد، بقوله: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، فالمراد بهم: المجاهدون الذين لم يستشهدوا بعد، وقد وصفهم بقوله:
الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم من الجراح والألم الشديد في غزوة أحد ولبوا نداء الرسول حينما طلبهم للقاء أبى سفيان في غزوة حمراء الأسد «١» الذين أحسنوا منهم العمل وأتقنوه واتقوا عاقبة تقصيرهم في العمل، وخافوا الله زيادة على ما هم عليه من الألم، أجر عظيم يتناسب مع عملهم وجهودهم، الذين قال لهم الناس- وهم نعيم بن مسعود كما ورد في بعض الروايات-: إن الناس- وهم قريش- قد
روى أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فبلغوا الروحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا على تركهم بقايا المسلمين، وهموا بالرجوع ليستأصلوا ما بقي من المؤمنين بعد أحد فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في أثر أبى سفيان وقال: لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس (القتال في أحد) فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد- موضع على ثمانية أميال من المدينة- (وكان بأصحابه القرح والألم) فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين، فنزلت الآية
.

جمعوا لكم جموعهم فاخشوهم ولا تخرجوا إليهم، وكان ذلك في غزوة بدر الصغرى (بدر الموعد) فَزادَهُمْ إِيماناً أى: فزادهم قول الناس لهم إيمانا وثقة به ويقينا في دينه، من حيث خافوه ولم يخافوا الناس واعتمدوا على نصره وعونه وإن قل عددهم فإنه هو العزيز القوى وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [سورة الأحزاب آية ٢٢].
وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ: كافينا الله ونعم الوكيل، فهو على كل شيء قدير ونعم المولى ونعم النصير.
وفي الحديث: «إذا وقفتم في الأمر العظيم فقولوا:
حسبنا الله ونعم الوكيل»
وفي رواية: للبخاري عن ابن عباس: قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم.
لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه أعطاهم من الجزاء أربعة: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا، فرضّاهم عنه ورضى عنهم وذلك هو الفوز العظيم، وفي هذا إشارة إلى الخسارة الفادحة التي لحقت بالقاعدين المتخلفين المنافقين وذلك معنى قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ (الآية).
إنما ذلك الشيطان- وهو نعيم بن مسعود- المثبط للمسلمين يخوف أولياءه الذين قعدوا عن رسول الله، وقيل: المعنى إنما ذلك قول إبليس الملعون يخوفكم أولياءه من صناديد الكفار كأبى سفيان، فلا تخافوهم وخافوني فاتبعوا أمرى وجاهدوا مع رسولي، سارعوا إلى ما يأمركم به إن كنتم مؤمنين حقا.
ما يؤخذ من الآية:
١- أن المؤمن القوى لا يكون جبانا، بل الجبن لا يجتمع مع الإسلام الكامل.
٢- مكانة الاستشهاد في سبيل الله وجزاؤه عند الله.
٣- أن الخوف يجب أن يكون من الله فقط لا من الأعداء مهما كانوا.
٤- على المؤمن أن يعالج أسباب الخوف فلا يسترسل فيها حتى على تلك العادة الرذيلة.