آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ

- ١٦٩ - وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
- ١٧٠ - فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
- ١٧١ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
- ١٧٢ - الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
- ١٧٣ - الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
- ١٧٤ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
- ١٧٥ - إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

صفحة رقم 335

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ، وَإِنْ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ مَرْزُوقَةٌ في دار القرار، روى ابن جرير بسنده عن أنَس بن مالك في قصة أصحاب رسول الله ﷺ الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل (بئر بعونة) قَالَ: لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْجَعْفَرِيُّ، فَخَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حتى أتو غَارًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَاءِ فَقَعَدُوا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ هَذَا الماء؟ فقال - اراه أبو مِلْحَانَ الْأَنْصَارِيَّ - أَنَا أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى حول بيتهم فاجتثى أَمَامَ الْبُيُوتِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ بِئْرِ مَعُونَةَ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَخَرَجَ إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه فِي جَنْبِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَاتَّبَعُوا أثره حتى أتو أصحابه في الغار فقتلهم أجميعن (عامر بن الطفيل).
وقال ابن اسحق: حدثني أنس بن مالك إن الله أَنْزَلَ فِيهِمْ قُرْآنًا، بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ، ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زماناً وأنزل الله تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ وَقَدْ قال مسلم في صحيحه، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ:
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فَقَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ عليهم رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تردَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حاجة تركوا".
(حديث آخر): عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة» (رواه أحمد وأخرجه مسلم).
(حديث آخر): عَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "أعلمت أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ: تمنَّ، فقال له: أردُّ إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون" (رواه أحمد عن جبار بن عبد الله) وقال البخاري، عن ابن المنكدر، سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ينهوني وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تبكيه - أَوْ مَا تَبْكِيهِ - مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأجنحتها حتى رفع» (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي)
(حديث آخر): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يوم أُحد جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ الله بنا لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي

صفحة رقم 336

الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الْآيَاتِ: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ وما بعدها".
(حديث آخر): عن طلحة بن خراش الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «يَا جَابِرُ مالي أراك مهتماً؟» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ ديناً عليه، قَالَ، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كلَّم أَبَاكَ كفاحاً»، قال علي: والكفاح المواجهة؟ "قال سَلْنِي أُعْطِكَ قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ أنه قد سَبَقَ مِنِّي الْقَوْلُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ، قَالَ: أَيْ رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أمواتاً﴾ (أخرجه ابن مردويه ورواه البهيقي في دلائل النبوة) الآية".
وَقَدْ رُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدِيثًا فِيهِ الْبِشَارَةُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بِأَنَّ رُوحَهُ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ تَسْرَحُ أَيْضًا فِيهَا وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَرَى مَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ، وتشاهد ما أعد اللَّهُ لَهَا مِنَ الْكَرَامَةِ، وَهُوَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَزِيزٍ عَظِيمٍ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ (أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبَعَةِ) فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رحمه الله رواه عن مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أنَس الْأَصْبَحِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنِ الزهري عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجِرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» (أخرج الإمام أحمد في المسند) قوله: «يعلق» أي يأكل وفي الْحَدِيثِ: «إِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ» وَأَمَّا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ فَهِيَ كَالْكَوَاكِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْوَاحِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا تَطِيرُ بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
وقوله تعالى: ﴿فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله﴾ إلىآخر الآية: أَيِ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أحياء عند ربهم، وهم فرحون بماهم فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْغِبْطَةِ، وَمُسْتَبْشِرُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ بَعْدَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ مِمَّا أَمَامَهُمْ وَلَا يَحْزَنُونَ على ما تركوه وراءهم، نسأل الله الجنة. وقال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾ أَيْ وَيُسَرُّونَ بِلُحُوقِ من لحقهم مِنْ إِخْوَانِهِمْ عَلَى مَا مَضَوْا عَلَيْهِ مِنْ جِهَادِهِمْ، لِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ ثَوَابِ الله الذي أعطاهم. قَالَ السُّدِّيُّ: يُؤْتَى الشَّهِيدُ بِكِتَابٍ فِيهِ يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلَانٌ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَيَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلَانٌ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَيُسَرُّ بِذَلِكَ كَمَا يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم. قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ لِلشُّهَدَاءِ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا يَعْلَمُونَ مَا عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا القتال بَاشَرُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى يُسْتَشْهَدُوا فَيُصِيبُوا مَا أَصَبْنَا مِنَ الْخَيْرِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ - أَيْ رَبُّهُمْ - أَنِّي قَدْ أَنْزَلْتُ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ فاستبشرا بِذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الْآيَةَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيحين عن أنَس فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَنَتَ رسول الله ﷺ يدعوا على الذين قتلوهم وَيَلْعَنُهُمْ. قَالَ أنَس: وَنَزَلَ فِيهِمْ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ حَتَّى رُفِعَ: «أَنْ بلِّغوا

صفحة رقم 337

عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عنا وأرضانا».
ثم قال تعالى: ﴿يستبشون بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين﴾ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتِ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ سَوَاءً الشُّهَدَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَلَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ فَضْلًا ذَكَرَ بِهِ الأنبياء وثواباً أعطاهم الله إياه إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ هَذَا كَانَ يَوْمَ (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا استمروا في سيرهم ندموا لِمَ لَا تمَّموا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلُوهَا الْفَيْصَلَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ندب المسلمين إلى الذاهب وَرَاءَهُمْ لِيُرْعِبَهُمْ وَيُرِيَهُمْ أَنَّ بِهِمْ قُوَّةً وَجَلَدًا، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ سِوَى مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ يَوْمَ أُحُدٍ سِوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لما سنذكره، فانتذب المسلمون على ما بهم ما الْجِرَاحِ وَالْإِثْخَانِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وعن عكرمة أنه: لَمَّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، بِئْسَمَا صَنَعْتُمْ، ارْجِعُوا فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا (حمراء الأسد) فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: نَرْجِعُ مَنْ قَابِلٍ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ تُعَدُّ غزوة فأنزل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
قال محمد بن إسحاق، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان قد شهد أُحداً، قال: شهدنا أُحداً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا وأخي ورجعنا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ قلت لأخي: أَتُفَوِّتُنَا غَزْوَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاللَّهِ مَا لَنَا مِن دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّآ إِلاَّ جَرِيحٌ ثَقِيلٌ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ أَيْسَرَ جِرَاحًا مِنْهُ؛ فَكَانَ إِذَا غُلِبَ حملته عُقْبَةً؛ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ المسلمون. وقال البخاري عن عائشة رضي الله عنها: ﴿الذي استجابوا لله والرسول﴾ الآية، قلت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم (الزبير) و (أبو بَكْرٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَصَابَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ: «مَنْ يَرْجِعُ فِي إِثْرِهِمْ»، فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ. وروي عن عروة قال، قالت لي عائشة إِنَّ أَبَاكَ مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ من بعد ما أصابهم القرح. وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُد فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ التُّجَّارُ يَقْدَمُونَ الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَيَنْزِلُونَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُمْ قَدِمُوا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُد، وَكَانَ أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ الْقَرْحُ وَاشْتَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ النَّاسَ لِيَنْطَلِقُوا مَعَهُ وَيَتَّبِعُوا مَا كَانُوا مُتَّبِعِينَ، وَقَالَ: «إِنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الْآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ وَلَا يَقْدِرُونَ على مثلها حتىعام مقبل»، فجاء الشيطان يخوف أَوْلِيَاءَهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابُوا وَرَجَعُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ، فَمَنْ يَنْتَدِبُ فِي طَلَبِهِ»، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وعلي وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فتبعوهم فَبَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُهُ فَلَقِيَ عِيرًا مِنَ التُّجَّارِ فَقَالَ: رُدُّوا مُحَمَّدًا وَلَكَمْ مِنَ الْجُعْلِ كَذَا وكذا، وأخبروهم أني قد جمعت جموعاً وأني راجع إليهم، فجاء التجار فأخبروا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

صفحة رقم 338

(تابع... ١): ١٦٩ - وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أحياء عند ربهم......
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ أَيْ لَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ كَفَاهُمْ مَا أَهَمَّهُمْ، وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأْسَ ما أَرَادَ كَيْدَهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى بَلَدِهِمْ: ﴿بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ مِمَّا أَضْمَرَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ، ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾. عن ابن عباس في قوله الله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}، قَالَ (النِّعْمَةُ) أنهم سلموا، و (الفضل) أن عيراً مرت فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَبِحَ فِيهَا مَالًا فَقَسَّمَهُ بين أصحابه (رواه البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس) وقال مجاهد في قوله الله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ قَالَ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ حَيْثُ قَتَلْتُمْ أَصْحَابَنَا، فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَسَى»، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَوْعِدِهِ حَتَّى نَزَلَ بدراً فوافقوا السوق فيها فابتاعوا، فذلك اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يمسسهم سوء﴾ الآية، قال: هي غزوة بدر الصغرى (أخرجه ابن جرير عن مجاهد.)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَذَوُو شِدَّةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ إذا سوَّل لكم وأوهمكم فتوكلوا عليّ والجأوا إليَّ فإني كَافِيكُمْ وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضعيفاً﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾، وقال: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقال: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن ينصره﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله بنصركم﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يقوم الأشهاد﴾ والآيات في ذلك كثيرة.

صفحة رقم 339
مختصر تفسير ابن كثير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار القرآن الكريم، بيروت - لبنان
سنة النشر
1402 - 1981
الطبعة
السابعة
عدد الأجزاء
3
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية