
ثلاثمائة.
﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ أي: يعلم ما يكتمون من النفاق، وأن قولهم خلاف ما يسرون.
قوله: ﴿الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ﴾ الآية.
أي: وليعلم الله الذين نافقوا، وقالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين ﴿وَقَعَدُواْ﴾ أي: قالوا ذلك وهم قعود عن الحرب مع النبي عليه السلام ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ (أي): لو تأخروا معنا ما قتلوا هناك، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: قل لهم يا محمد: ﴿فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ " في قولكم إن إخوانكم لو قعدوا عندكم ما قتلوا " أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت، وهذا أقرب لأن من قدر أن يدفع الموت عن غيره فهو إلى دفعه عن نفسه أقرب.
قال قتادة: نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي بن سلول قال ذلك فيمن قتل مع النبي ﷺ بأحد من قرابته وأهل معرفته.
قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
معناها: ولا تظنن أن من قتل بأحد من أصحابكم أمواتاً لا يلتذون، ولا يحسون شيئاً بل هم أحياء بما آتاهم الله من فضله مستبشرين بثوابه وعطائه.

وقال ابن عباس رضي الله عنهـ، قال النبي ﷺ: " " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش معلقة يجاوب بعضها بعضاً عملوا مثل الذي عملنا، فيسارعوا إلى مثل الذي سارعنا فيه، فإنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا، وأرضانا، فوعدهم الله تعالى ليخبرن نبيه ﷺ بذلك، فيخبرهم فأنزل الله ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾ الآية
وقيل: إنهم لما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى: أنا أبلغكم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
قال النبي ﷺ لجابر بن عبد الله رضي الله عنهـ وكان قد قتل أبوه عبد الله بأحد: " يا جابر ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله فقال: ما تحب يا عبد الله بن عمر أن أفعل بك؟ فقال: يا رب أحب أن تردني في الدنيا، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى ". ولما أتى جابر بن عبد الله رضي الله عنهـ النبي ﷺ حزيناً قال له النبي ﷺ: أتحزن على رجل نظر الله إليه كفاحاً؟ ثم عاد فأقعده بين يديه فقال له: سلني ما شئت؟ فقال:

أسألك يا رب أن تعيدني إلى الدنيا حتى أقاتل في سبيلك فأقتل، قالها ثلاثاً، فقال له الله إني قضيت على نفسي ألا أرد خليقة قبضتها إلى الدنيا فقال أبو جابر: يا رب، فمن يبلغ قومي ما صنعت بي فقال الله تعالى: أنا أبلغ قومك، فأنزل الله تعالى ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ﴾ الآية.
ودفن عبد الله بن جابر يوم أحد مع عمرو بن الجمح بقبر واحد، فروي أنهما أخرجا بعد خمسين سنة، فإذا هما وطاب لم ينثنوا ولم يتغيروا، ويد عبد الله على جرحه في وجهه إذا نزعت يده على وجهه يشخب الجرح دماً، وإذا تركت رجعت إلى الجرح، فحبست الدم، ووجد عمرو بن الجموح ويده على رأسه إذا نزعت يشخب الجرح دماً، وإذا تركت رجعت على الجرح. قال ابن مسعود رضي الله عنهـ: " أرواحهم في طير خضر تسرح في الجنة في أيتها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش قال: بينما هم كذلك اطلع عليهم ربك اطلاعه فقال: سلوني ما شئتم؟ فقالوا: يا ربنا ماذا نسألك " ونحن في الجنة نسرح في أيها شئنا، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من [غير] أن يسألوا

قالوا: نسألك " أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا حتى نقتل في سبيلك. فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا، تركوا " ".
وقال قتادة: قال رجل من أصحاب النبي ﷺ: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله تعالى ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ﴾ الآية.
قال الضحاك: [كان] المسلمون يسألون الله تعالى يوماً كيوم بدر، فيبلون فيه خيراً، ويرزقون فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ﴾ الآيات.
قيل معناه: ﴿أَمْوَاتاً﴾ أي: في دينهم بل هم أحياء كما قال: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه﴾ [الأنعام: ١٢٢].
وروي: أن عبد الله بن عمرو أبا جابر رضي الله عنهـ قال لابنه جابر يوم أحد: يا بني كن مع أخوتك، - وكن تسعاً - فلا ندري ما يكون، فإن رزقت الشهادة كنت أنت معهن وإن سلمت رجوت أن يثيبك الله تعالى ثواب من حضر، واستشهد رحمه الله بأحد،