آيات من القرآن الكريم

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ

وَالْوُلَاةُ، وَالرِّبِّيُّونَ الرَّعِيَّةُ، وَهُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الرَّبِّ.
واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيون نوعين: أَوَّلًا بِصِفَاتِ النَّفْيِ، وَثَانِيًا بِصِفَاتِ الْإِثْبَاتِ، أَمَّا الْمَدْحُ بِصِفَاتِ النَّفْيِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَا وَهَنُوا عِنْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ وَمَا ضَعُفُوا عَنِ الْجِهَادِ بَعْدَهُ وَمَا اسْتَكَانُوا لِلْعَدُوِّ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْوَهْنِ وَالِانْكِسَارِ، عِنْدَ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ رَسُولِهِمْ، وَبِضَعْفِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتِكَانَتِهِمْ لِلْكَفَّارِ حَتَّى أَرَادُوا أَنْ يَعْتَضِدُوا بِالْمُنَافِقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَطَلَبِ الْأَمَانِ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُفَسَّرَ الْوَهْنُ بِاسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، وَيُفَسَّرَ الضَّعْفُ بِأَنْ يَضْعُفَ إِيمَانُهُمْ، وَتَقَعَ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَالِاسْتِكَانَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ دِينِهِمْ إِلَى دِينِ عَدُوِّهِمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْوَهْنَ ضَعْفٌ يَلْحَقُ الْقَلْبَ. وَالضَّعْفُ الْمُطْلَقُ هُوَ اخْتِلَالُ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ بِالْجِسْمِ، وَالِاسْتِكَانَةُ هِيَ إِظْهَارُ ذَلِكَ الْعَجْزِ وَذَلِكَ الضَّعْفِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ حَسَنَةٌ مُحْتَمَلَةٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاسْتِكَانَةُ الْخُضُوعُ، وَهُوَ أَنْ يَسْكُنَ لِصَاحِبِهِ لِيَفْعَلَ بِهِ مَا يُرِيدُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ وَلَمْ يُظْهِرِ الْجَزَعَ وَالْعَجْزَ وَالْهَلَعَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ إِكْرَامِهِ وَإِعْزَازِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَالْحُكْمِ لَهُ بِالثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْمَطْلُوبِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ مَدَحَهُمْ بِصِفَاتِ الثبوت فقال:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٧]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّصَبُّرِ وَالتَّجَلُّدِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ بِطَلَبِ/ الْإِمْدَادِ وَالْإِعَانَةِ مِنَ اللَّهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مَنْ عَوَّلَ فِي تَحْصِيلِ مُهِمَّاتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ذَلَّ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ فَازَ بِالْمَطْلُوبِ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا قَدَّمُوا قَوْلَهُمْ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ضَمِنَ النُّصْرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلِ النُّصْرَةُ وَظَهَرَ أَمَارَاتُ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ، دَلَّ ذَلِكَ ظَاهِرًا عَلَى صُدُورِ ذَنْبٍ وَتَقْصِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلِهَذَا الْمَعْنَى يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَقْدِيمُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ عَلَى طَلَبِ النُّصْرَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَدَءُوا بِالتَّوْبَةِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ الذُّنُوبِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الصَّغَائِرِ أَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَصُّوا الذُّنُوبَ الْعَظِيمَةَ الْكَبِيرَةَ مِنْهَا بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا وَعِظَمِ عِقَابِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا لِأَنَّ الْإِسْرَافَ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الإفراط فيه، قال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزُّمَرِ: ٥٣] وَقَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:
٣٣] وقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الْأَعْرَافِ: ٣١] وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُسْرِفٌ إِذَا كَانَ مُكْثِرًا فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَذَلِكَ بِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِزَالَةِ الْخَوَاطِرِ

صفحة رقم 381
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية