
أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ (عَزَّ وجَلَّ) خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا، وأَنَّ الدُّنْيَا لَهُ وَمَا فِيهَا، إلاَّ الشَّهِيدَ، لِمَا يرى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلُ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يرى مِنَ الكَرَامَةِ». اهـ «١».
فقد تبيَّن لك تمنِّي القَتْلِ في سبيل اللَّه بهذه النُّصُوصِ لما فيه من الكرامة.
وصَوَابُ كلام ع «٢» : أنْ يقول: وإِنما يتمنَّى القتلُ للواحقه من الشَّهادةِ والتنْعِيمِ.
وقوله سبحانه: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، يريد: رأيتم أسبابه، وقوله: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ:
تأكيدٌ للرؤية، وإخراجِها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٦]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وقوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... الآية: هذا استمرار في عتبهم، وإقامةُ الحُجَّة علَيْهم: المعنى أنَّ محمدًا- عليه السلام- رسُولٌ كسائرِ الرُّسُلِ قد بَلَّغ كما بلَّغوا، ولزمكم أيُّها المؤمنُونَ العَمَلُ بمُضَمَّن الرسالة، وليسَتْ حياته وبَقَاؤه بَيْنَ أظهركم شَرْطاً في ذلك لأنه يَمُوتُ كما مَاتَتِ الرُّسُل قبله، ثم توعَّد سبحانه المُنْقَلِبَ على عَقِبَيْهِ بقوله: فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً لأن المعنى: فإنما يضرُّ نفسه، وإياها يوبق، ثم وعد الشاكِرِينَ، وهم الذين صدَقُوا، وصَبَرُوا، ومَضَوْا في دينهم، ووفّوا لله
(١) أخرجه البخاري (٦/ ١٨)، كتاب «الجهاد»، باب الحور العين وصفتهن، حديث (٢٧٩٥)، ومسلم (٣/ ١٤٩٨) كتاب «الإمارة»، باب فضل الشهادة، حديث (١٠٩/ ١٨٧٧)، والترمذي (٤/ ١٥١)، كتاب «فضائل الجهاد»، باب ما جاء في ثواب الشهداء، حديث (١٦٤٣)، من طريق حميد عن أنس به.
وأخرجه البخاري (٦/ ٣٩) كتاب «الجهاد» باب تمني الجهاد، حديث (٢٨١٧)، ومسلم (٣/ ١٤٩٨)، كتاب «الإمارة»، باب فضل الشهادة، حديث (١٠٩/ ١٨٧٧) من طريق قتادة عن أنس به.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥١٥).

بعدهم كسعدِ بْنِ الرَّبيع «١»، ووصيته يومئذٍ للأنصار، وأَنَسِ بْنِ النَّضرِ «٢»، وغيرهما، ثم يَدْخُلُ في الآية الشاكرون إلى يوم القيامةِ، وقال عليٌّ (رضي اللَّه عنه) في تفسير هذه الآية «٣» : الشاكِرُونَ الثَّابِتُونَ على دِينِهِمْ أبو بَكْر، وأصحابه، وكان يقولُ: أبُو بَكْرٍ/ أَمِيرُ الشَّاكِرِينَ إشارة منه إلى صَدْعِ أبي بَكْر بهذه الآيةِ يوم موت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وثبوتِهِ في ذلك المَوْطِن، وثبوتِهِ في أمْرِ الرِّدَّة، وسائرِ المواطنِ التي ظَهَرَ فيها شُكْرُهُ، وشُكْرُ الناس بسببه، ثم أخبر عزَّ وجلَّ عن النفوسِ أنها إنما تَمُوتُ بَأجَلٍ مَكْتُوبٍ محتومٍ عند اللَّه تعالى، أي:
فالجُبْنُ والخَوَرُ لا يزيدُ في الأجَلِ، والشَّجَاعَةُ والإقدامُ لا ينقصُ منه، وفي هذه الآية تقويةٌ للنفوس في الجهادِ، وفيها ردٌّ على المعتزلة في قَوْلِهِمْ بِالأَجَلَيْنِ.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها... الآية، أي: نؤت من شئْنا منها ما قُدِّرَ له يبيِّن ذلك قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: ١٨]، وقرينةُ الكلامِ تقتضي أنه لا يؤتى شيْئاً من الآخرة لأنَّ مَنْ كانَتْ نيَّته من عمله مقصورةً على طَلَب الدُّنْيا، فلا نَصِيبَ له في الآخرة، والأعمال بالنيَّات، وقرينةُ الكلامِ مِنْ قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها لا تمنع أنْ يؤتى نصيباً من الدنيا، قال ابنُ فُورَكَ في قوله تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ: إشارة إلى أنه ينعِّمهم بِنعَمِ الدُّنْيا، لا أنهم يقصرون عَلَى الآخرة «٤».
ثم ضَرَب سبحانه المثل للمؤمنينَ بمَنْ سَلَف مِنْ صالح الأمم الذين لم يَثْنِهِمْ عن دينهم قَتْلُ الكُفَّار لأنبيائِهِمْ، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ... الآية: وفي «كَأَيِّنْ» لغاتٌ، فهذه اللغة أصلها «٥» لأنها كافُ التشبيه دخلت على «أيّ»، و «كأيّن» في
(٢) أنس بن النضر بن ضمضم الأنصاري، الخزرجي، عمّ أنس بن مالك خادم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ينظر: «الإصابة» (١/ ٢٨١).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٥٥) برقم (٧٩٣٧)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥١٦)، والسيوطي بنحوه في «الدر المنثور» (٢/ ١٤٥)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥١٨).
(٥) هذه اللفظة قيل: مركبة من كاف التشبيه ومن «أيّ»، وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من «كم» الخبرية، ومثلها في التركيب وإفهام التكثير: «كذا» في قولهم: «له عندي كذا كذا درهما» والأصل:
كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسم إشارة، فلمّا ركّبا حدث فيهما معنى التكثير، وكم الخبرية و «كأيّن» و «كذا» كلّها بمعنى واحد، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر ألا ترى أنّ «لولا» حدث لها معنى جديد. «وكأيّن» من حقّها على هذا أن يوقف عليها بغير نون لأنّ التنوين يحذف وقفا، إلا أنّ-

هذه الآية في موضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، وهي بمنزلة «كَمْ»، وبمعناها تعطى في الأغلب التكثيرَ، وقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو: «قُتِلَ» مَبْنياً لما لم يسمَّ فاعله، وقرأ «١» الباقُونَ «قَاتَلَ»، فقوله: «قُتِلَ»، قال فيه جماعةٌ من المفسِّرين، منهم الطَّبريُّ «٢» : إنه مستند إلى ضميرِ «نَبِيٍّ»، والمعنى عندهم أنَّ النبيَّ قُتِلَ، ونحا إليه ابنُ عَبَّاس، وإذا كان هذا، ف «رِبِّيُّونَ» مرتفعٌ بالظرف بلا خلاف، وهو متعلِّق بمحذوفٍ، وليس متعلِّقاً ب «قُتِلَ»، وقال الحَسَن بْنُ أبي الحَسَن وجماعة: إنَّ «قُتِلَ» إنما هو مستندٌ إلى قوله: «رِبِّيُّون»، وهم المقتولُونَ «٣»، قال الحَسَن، وابنُ جُبَيْر: لم يقتل نبيٌّ في حَرْبٍ «٤» قطُّ.
قال ع «٥» : فعلى هذا القول يتعلَّق قوله: «مَعَهُ» ب «قُتِلَ» ورجح الطبريّ «٦» القول الأوّل بدلالة نازلة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنَّ المؤمنين إنما تخاذلوا يَوْم أحد، لما قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّد، فضرب المَثَل بنَبِيٍّ قُتِلَ، وترجيحُ الطبريِّ حسن ويؤيِّد ذلك ما تقدَّم من قوله:
أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران: ١٤٤] وحجة من قَرَأَ «قَاتَلَ» : أنها أعمُّ في المدح لأنه يدخل فيها مَنْ قتل، ومن بقي.
ووقف أبو عمرو وسورة بن مبارك- عن الكسائي- عليها: «كأي» من غير نون على القياس. واعتلّ الفارسي لوقف النون بأشياء طوّل بها، منها: أنّ الكلمة لمّا ركّبت خرجت عن نظائرها، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة. وفيها لغات خمس:
أحدها: «كأيّن» وهي الأصل.
والثانية: «كائن» بزنة «كاعن».
اللغة الثالثة: «كأين» بياء خفيفة بعد الهمزة على مثال: كعين.
اللغة الرابعة: «كيئن» بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة.
واللغة الخامسة: «كئن» على مثال كع، ونقلها الداني قراءة عن ابن محيصن.
ينظر: «الدر المصون» (٢/ ٢٢٤- ٢٢٥- ٢٢٦).
(١) وحجة من قرأ «قتل» : أن ذلك نزل معاتبة لمن أدبر عن القتال يوم أحد، إذ صاح صائحهم: قتل محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما تراجعوا كان اعتذارهم أن قالوا: سمعنا «قتل محمد»، فنزلت.
انظر: «البحر المحيط» (٢/ ٥١٦)، و «الدر المصون» (٢/ ١٣٣).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٤٦٠).
(٣) ذكره ابن عطية (١/ ٥٢٠).
(٤) ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (١/ ٤٢٨) عن الحسن، وذكره (أيضا) البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٦٠)، وابن عطية (١/ ٥٢٠).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٢٠).
(٦) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٤٦١).

قال ع «١» : ويحسُنُ عندي على هذه القراءةِ استناد الفعْلِ إلى الربِّيِّين، وقوله:
رِبِّيُّونَ، قال ابن عباس وغيره: معناه: جموعٌ كثيرةٌ، وهو الرِّبَّة «٢» (بكسر الراء)، وهي الجماعة الكثيرة، وروي عنِ ابن عَبَّاس والحسنِ بْنِ أبي الحَسَن وغيرهما: إنهم قالوا:
ربِّيونَ: معناه: علماء «٣» ويقوِّي هذا القولَ قراءةُ مَنْ قرأَ: رِبِّيُّونَ «٤» (بفتح الراء)، منسوبون إلى الرَّبِّ إما لأنهم مطيعُونَ له، أوْ مِنْ حيث إنهم علماء بما شَرَع.
وقوله سبحانه: وَمَا اسْتَكانُوا، ذهبتْ طائفةٌ من النحاة «٥» إلى أنَّه من السُّكُون، وذهَبَتْ طائفة إلى أنه مأخوذٌ مِنْ: «كَانَ، يَكُونُ»، وأصلُهُ: استكونوا، والمعنى: أنهم لم يَضْعُفوا، ولا كانوا/ قريباً من ذلكَ، قلْتُ: واعلم (رحمك اللَّه) أنَّ أصْلَ الوَهَنِ والضَّعْفِ عن الجِهَادِ، ومكافحةِ العَدُوِّ هو حُبُّ الدنيا، وكراهيةُ بَذْلِ النفوس لله، وبذل مهجها للقتل
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٦٢) برقم (٧٩٦٠)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٦٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ١٤٧)، وعزاه للعوفي.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٦٢) برقم (٧٩٦٣)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٢٨)، وابن عطية (١/ ٥٢١). [.....]
(٤) ورواها قتادة عن ابن عباس.
ينظر: «شواذ ابن خالويه» (ص ٢٩)، و «المحتسب» (١/ ١٧٣)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٥٢٠)، و «البحر المحيط» (٣/ ٨٠)، و «الدر المصون» (٢/ ٢٢٩)، و «القرطبي» (٤/ ١٤٨).
(٥) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه استفعل من الكون والكون: الذّلّ، وأصله: استكون، فنقلت حركة الواو على الكاف، ثم قلبت الواو ألفا. وقال الأزهريّ وأبو عليّ: «هو من قول العرب: «بات فلان بكينة سوء» على وزن «جفنة» أي: «بحالة سوء» فألفه على هذا من ياء، والأصل: استكين، ففعل بالياء ما فعل بأختها.
الثاني: قال الفراء: «وزنه افتعل من السكون، وإنما أشبعت الفتحة فتولد منها ألف».
وردّ على الفراء بأنّ هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمة نحو: استكان يستكين فهو مستكين ومستكان إليه استكانة، وبأنّ الإشباع لا يكون إلا في ضرورة. وكلاهما لا يلزمه: أمّا الإشباع، فواقع في القراءات السبع كما سيمرّ بك، وأمّا ثبوت الألف في تصاريف الكلمة، فلا يدلّ أيضا لأنّ الزائد قد يلزم ألا ترى أنّ الميم في تمندل وتمدرع زائدة، ومع ذلك هي ثابتة في جميع تصاريف الكلمة قالوا:
تمندل يتمندل تمندل تمندلا فهو متمندل ومتمندل به، وكذا تمدرع، وهما من النّدل والدّرع. وعبارة أبي البقاء أحسن في الردّ فإنه قال: «لأنّ الكلمة في جميع تصاريفها ثبتت عينها، والإشباع لا يكون على هذا الحدّ».
ولم يذكر متعلّق الاستكانة والضعف فلم يقل «فما ضعفوا عن كذا، وما استكانوا لكذا» للعلم به أو للاقتصار على الفعلين نحو: كُلُوا وَاشْرَبُوا ليعمّ ما يصلح لهما.
ينظر: «الدر المصون» (٢/ ٢٢٩- ٢٣٠).