آيات من القرآن الكريم

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ

ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رأوا مثلكم في سالف السنن «١»
وقال بعضهم: معناه أهل السنن، وقال عطاء: شرائع، الكلبي: قد مضت لكل أمة سنّة ومنهاج إذا ابتغوها رضي الله عنهم، مجاهد: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ بالهلاك فيمن كذب قبلكم، والسنّة في اللغة: المثال المتبع والإمام المؤتم به، فقال: سنّ فلان سنّة حسنة أو سنّة سيئة إذا عمل عملا يقتدى به من خير أو شر.
قال لبيد:
من معشر سنّت لهم آباؤهم ولكل قوم سنّة وإمامها «٢»
قال سليمان بن قبة:
وإن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التآسيا «٣»
ومعنى الآية: قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية المكذبة الكافرة سنن بإمهالي واستدراجي إياهم حتى بلغ الكتاب فيهم أجلي على الذي أجلته لأدلة أنبيائي وإهلاكهم.
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ آخر أمرهم الْمُكَذِّبِينَ منهم، وهذا في يوم أحد. يقول: فإذا أمهلهم واستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأوليائه وهلاك أعدائه، هكذا قال ابن إسحاق هذا الذي ذكرت.
هذا القرآن بَيانٌ لِلنَّاسِ عامة وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ من الجهالة لِلْمُتَّقِينَ خاصّة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٥]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٢١٦. بتفاوت.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢١٦.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ١٣٤، لسان العرب: ١٤/ ٣٥.

صفحة رقم 171

وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا الآية، هذا تعزية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد، وحثّ منه إياهم على قتال عدوهم، ونهى عن العجز والفشل فقال:
وَلا تَهِنُوا أي ولا تضعفوا ولا تخيبوا يا أصحاب محمد على جهاد أعدائكم بما قاتلوكم يوم أحد من القتل والقرح وَلا تَحْزَنُوا على ظهور أعدائكم وعلى ما أصابكم من المصيبة والهزيمة، وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة، ومن الأنصار سبعون رجلا.
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي لكم تكون العاقبة والنصر والظفر.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إذ كنتم، ولأنكم مؤمنون.
قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشعب فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلوا عليهم الجبل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تعل علينا اللهم لا قوة لنا إلّا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر» «١» [١٥٣] فأنزل الله تعالى هذه الآية، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل، فرموا خيل المشركين حتى هزموهم وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «٢».
وقال الكلبي: نزلت هذه الآية بعد يوم أحد، حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخرج إلّا من شهد معنا بالأمس» «٣» واشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ودليله قوله عزّ وجلّ: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ «٤» الآية.
وقيل: (وَلا تَهِنُوا) لما نالكم من الهزيمة (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الغنيمة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقضاء الله ووعده.
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ الآية.
قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كئيبا حزينا جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها وأبيها مقتولين وهي تلدم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهكذا يفعل برسولك؟» «٥» [١٥٤] فأنزل الله تعالى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ جرح يوم أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوم بدر.

(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٢١٧.
(٢) فتح الباري: ٧/ ٢٦٨.
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٧٧.
(٤) سورة النساء: ١٠٤.
(٥) أسباب نزول الآيات: ٨٣.

صفحة رقم 172

وقرأ محمد بن السميقع: قَرَحٌ فتح القاف والراء على المصدر.
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: بضم القاف حيث كان، وهي قراءة ابن مسعود.
وقرأ الباقون: بفتح القاف، وهي قراءة عائشة واختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، قالا: لأنهما لغة تهامة والحجاز، لغتان مثل الجهد والوجد والوجد.
وقال بعضهم: القرح بالفتح الجراحات واحدتها قرحة، والقرح بالضم وجع الجراحة.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فيوما عليهم ويوما لهم وذلك أنّ الله عزّ وجلّ أدل المسلمين من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وأدال المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا منهم خمسة وسبعين.
قال أنس بن مالك: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن
، ونظير هذه الآية قوله: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ «١» يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر، يعني المثلى والأسرى.
عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما كان يوم أحد صعد أبو سفيان الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس لهم أن يعلونا» [١٥٥] قال: فمكث أبو سفيان ساعة ثم قال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة اين ابن الخطاب؟ فقال عمر (رضي الله عنه) : هذا رسول الله وهذا أبو بكر وها أنا عمر. فقال أبو سفيان: يوما بيوم وأن الأيام دول والحرب سجال.
فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
فقال: إنكم لتزعمون ذلك فقد خبنا إذا وخسرناهم.
قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون قتلاكم مثلى ولم يكن ذلك على رأي سراتنا ثم ركبته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إذا كان ذلك لم نكرهه.
قال الثعلبي: أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو الحسن الكارزي قال: أنشدنا محمد بن القاسم الجمحي:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة... وفي كل حادثة يؤتمر
يهينون من حقروا فقره... وإن كان فيهم تقي أو تبر

(١) سورة آل عمران: ١٦٥.

صفحة رقم 173

فيوما علينا ويوما لنا... ويوم نساء ويوما نسر «١»
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني وإنما كانت هذه المداولة لِيَعْلَمَ اللَّهُ ليرى الله الذين كفروا منكم ممّن نافقوا فيهزأ بعضهم من بعض. وقيل: معناه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن يكلّفهم وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يكرم أقواما بالشهادة، وذلك أن المسلمين قالوا: أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة. فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني يطهّرهم من ذنوبهم وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ يفنيهم ويهلكهم وينقصهم ثم عزّاهم فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ... (وَيَعْلَمَ) نصب على الظرف، وقيل: بإضمار أن الخفيفة.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وذلك أنهم تمنوا أن يكون لهم يوم كيوم بدر فأراهم الله تعالى يوم أحد فذلك قوله: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي أسبابه وآثاره وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية.
قال أهل التفسير وأصحاب المغازي: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل الشعب في سبعمائة رجل وأمر عبد الله بن جبير. أحد بني عمر. وعمر بن عوف. وهو أخو خوات بن جبير. على الرماة وهم خمسون رجلا.
فقال: «أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنّا بالنبل لا نؤتا من خلفنا وإن كان لنا أو علينا، ولا تبرحوا مكانا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار وكانت هند تقول:
نحن بنات طارق... نمشي على النمارق
الدر في المخانق... والمسك في المفارق
إن تقبلوا نعانق... ونفرّق النمارق
أو تدبروا نفارق... فراق غير وامق «٢»
وكان أبو عامر عبد عمرو بن الصيفي أول من لقيهم بالأحابيش وعبيد أهل مكة، فقاتلهم قتالا شديدا حتى حميت الحرب.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني» فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري وكان رجلا شجاعا يحتال عند الحرب، فلما أخذ السيف اعتمّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:

(١) ورد متفرقا في: تفسير الطبري: ٢٠/ ٦٤، تفسير القرطبي: ١٣/ ٢٦٦، فقه القرآن للراوندي: ١/ ٣٥٢.
(٢) الطبقات الكبرى: ٢/ ٤٠، تاج العروس: ٦/ ٤١٨. [.....]

صفحة رقم 174

أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألّا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها لمشية يبغضها الله إلّا في هذا الموضع» ثم حمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على المشركين فهزموهم [١٥٦] «١».
وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش، فأنزل الله نصره على المؤمنين.
قال الزبير بن العوّام: فرأيت هندا وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدادهن ما دون أخدهن شيء، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب. واختلفوا، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال بعضهم: ما بقي من الأمر شيء، ثم انطلقوا عامتهم ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأوا ظهورهم خالية، صاح في خيل المشركين ثم حمل على أصحاب النبي من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله، وتفرّق عنه أصحابه، فأقبل عبد الله بن قمية يريد قتل رسول الله فذب مصعب بن عمير. وهو صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، ويوم أحد وكان اسم رايته العقاب. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل مصعب دونه، قتله ابن قمية فرجع وهو يظن أنه قتل رسول الله، فقال: إني قتلت محمدا وصاح صارخ: ألا أن محمدا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوا الناس ويقول: «إليّ عباد الله إليّ عباد الله» [١٥٧] فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه وأصيبت يد طلحة بن عبد الله فيبست، وقى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانها فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا فقال: «دعوه» حتى إذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله فيقول:
عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها.
قال رسول الله: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» [١٥٨] فلما كان يوم أحد ودنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول: قتلني محمد، واحتمله أصحابه فقالوا: ليس عليك
(١) تاريخ الطبري: ٢/ ١٩٥.

صفحة رقم 175

شيء، فقال: بلى، لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي: أقتلك إن شاء الله، فلو بزق عليّ بعد هذه المقالة لقتلني. فما لبث إلّا يوما حتى مات بموضع يقال له صرف «١».
فقال حسان بن ثابت في ذلك:

[وقد قتلت بنو النجار منكم... أمية إذا يغوث: يا عقيل
لقد ورث الضلالة عن أبيه أبي حين بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رم عظم وتوعده وأنت به جهول
يقول فكيف يحيى الله هذا وهذا العظم عار ومستحيل «٢»
وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا أبا جهل لأمهما الهبول
وأفلت حارث لما شغلنا بأسر القوم، أسرته فليل] «٣»
وقال حسان بن ثابت أيضا:
ألا من مبلغ عني أبيّا فقد ألقيت في جوف السعير
تمنى بالضلالة من بعيد وقول الكفر يرجع في غرور
فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ كريم الأصل ليس بذي فجور
له فضل على الأحياء طرّا إذا نابت ملمّات الأمور «٤»
قالوا: وفشا في الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا والقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول.
فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك وسمي أنس: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن ربّ
(١) تفسير الطبري: ٤/ ١٥٠.
(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ٣/ ٦٠٢، السيرة النبوية- ابن كثير-: ٣/ ٦٩، ولم يرد البيت الأخير في المصادر.
(٣) أثبتناه من المصادر، وما في الأصل هكذا:
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يحيا بأمر الله ليس كما تقول فالى حلفه بالله إني
سأقتله فكان هو القتيل فابكوا يا بني خلف جميعا
رجالا كلهم رجس ضلول وقد قتلت بنو النجار
منكم أمية إذ يغوث [يا عقيل] وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا
أبا جهل لأمهما الهبول
(٤) السيرة النبوية لابن هشام: ٣/ ٦٠٢، السيرة النبوية لابن كثير: ٣/ ٦٩.

صفحة رقم 176

محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل، ثم إن رسول الله انطلق إلى الصخرة وهو يدعوا الناس، فأول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك فقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي على الفرار فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ومحمد هو المستغرق بجميع المحامد، لأن الحمد لا يستوجبه إلّا الكامل، والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلّا المستولي على الأمد في الكمال، وأكرم الله عزّ وجلّ نبيّه وصفيّه باسمين مشتقين من اسمه تعالى: محمد وأحمد، وفيه يقول حسان بن ثابت:
ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه... والله أعلى وأمجد
قد شق له من اسمه ليجله... فذو العيش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة من الدين... والأوثان في الأرض تعبد
فأرسله ضوءا منيرا وهاديا... يلوح كما لاح الصقيل المهنّد «١»
روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش وشتمهم يسبون مذمّما وأنا محمد» [١٥٩] «٢».
وروى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سمّيتم الولد محمدا فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها فما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلّا خيرا لهم وما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه أحمد أو محمد إلّا قدّس في كل يوم ذلك المنزل مرتين» «٣» [١٦٠].
وعن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الرجل: إنما أدعوا ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي» «٤» [١٦١].
وروى محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجمعوا بين

(١) تفسير مجمع البيان: ٢/ ٤٠٣.
(٢) مسند أحمد: ٢/ ٣٤٠.
(٣) تفسير مجمع البيان: ٢/ ٤٠٧.
(٤) مسند أحمد: ٢/ ٢٤٨.

صفحة رقم 177

اسمي وكنيتي أنا أبو القاسم الله يعطي وأنا أقسم» «١» ثم رخص في ذلك لعلي وابنه» [١٦٢].
وروى ليث عن محمد بن بشير عن محمد بن الحنفية عن علي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ولد لك غلام نحلته اسمي وكنيتي» «٢» [١٦٣].
أَفَإِنْ ماتَ على فراشه أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ رجعتم إلى دينكم الأول الكفر وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فيرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده وإنما يضر نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ المؤمنين.
روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي، وأن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات قال: فأقبل أبو بكر (رضي الله عنه) حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت عائشة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجّى ببردة خيبر، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتبها الله عزّ وجلّ عليك فقد ذقتها ثم لم تصبك بعدها موتة أبدا، ثم ردّ الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر فأنصت قال: فأبى إلّا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. فقال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم.
قال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلّا أن سمعت أن أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني وما ينبغي لنفس أن تموت.
وقال الأخفش: اللام في قوله: (لِنَفْسٍ) مقتولة تقديره: ما كانت نفس لتموت (إلّا بإذن الله) بعلم الله، وقيل: بأمره.

(١) صحيح ابن حبان: ١٣/ ١٣٤، كنز العمال: ١٦/ ٤٢٨، ح ٤٥٢٦٤.
(٢) الطبقات الكبرى: ٥/ ٩٢، تاريخ دمشق: ٥٤/ ٣٢٧.

صفحة رقم 178
الكشف والبيان عن تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أو الثعالبي
راجعه
نظير الساعدي
الناشر
دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان
سنة النشر
1422 - 2002
الطبعة
الأولى 1422، ه - 2002 م
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية