آيات من القرآن الكريم

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﱿ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ

يبطنون الكفر بدينكم «وَإِذا خَلَوْا» مع قومهم «عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» الكامن في قلوبهم يود أحدهم أن يقطعه إربا إربا وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز عن الانتقام أو تضييع وقته «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (١١٩) ومخبر نبيه بأحوالكم كلها واعلموا أيها المؤمنون «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ» من خير ونصر وغيرهما «تَسُؤْهُمْ» حسدا وعدوانا «وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ» من شر وخذلان وشبههما «يَفْرَحُوا بِها» تشفيا فيكم «وَإِنْ تَصْبِرُوا» على أذاهم وتجثنبوا موالاتهم «وَتَتَّقُوا» الله ربكم وتعتصموا به وتتوكلوا عليه فهو خير لكم و «لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» لأن الله يحفظكم منهم «إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (١٢٠) وإنه يخبركم به لتتقوه فلا يضركم كيدهم، نزلت هذه الآيات في رجال من المسلمين كانوا يواصلون اليهود لما بينهم من قرابة ورضاع وصداقة وخلطة في الأموال والسكن قبل الإسلام
ولما أخبرهم حضرة الرسول ارتدعوا وجانبوهم، قال تعالى «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ» أي خرجت غدوة من بيت زوجتك عائشة لتوطن وتهيء وتمهد و «تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ» مجالس ومواضع «لِلْقِتالِ» للمقاتلين من قومك «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما تقوله لهم «عَلِيمٌ» (١٢١) بما يقع لك ولأمتك واذكر لهم «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» تجنبا عن القتال وتضعفا عن اللقاء وهذا الهمّ من قبيل جيشان النفس لا العزم والتصميم لأنه بمعناه الأخير بعيد عنهم وهم أصحاب محمد وهو معهم وإنما هو على حد قول القائل:

أقول لها إذا جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
أي حدثت نفسها بذلك، ومما يؤيد هذا قوله تعالى «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» ومن كان الله وليه لا يجبن ولا يضعف كيف وهو ناصرهما وعاصمهما «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (١٢٢) ومن يتوكل على الله يكفه ويجعل له من ضيقه مخرجا ويهيء له ما يرومه من حيث لا يحتسب، روى البخاري ومسلم عن جابر قال:
نزلت فينا هذه الآية وقال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما يسرني

صفحة رقم 390

أنها لم تنزل لقول الله (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) لما فيها من الشرف لهم بولاية الله.
لما انكسرت قريش في وقعة بدر المار ذكرها في الآية ٨ من سورة الأنفال ورجعوا خائبين قال بعضهم لبعض إن محمدا وتركم وقتل خياركم، وحث بعضهم بعضا على جمع المال واستعدوا للقتال وخرجوا قاصدين المدينة بقيادة أبي سفيان ومعه زوجته هند بنت عتبة حتى نزلوا على شفير الوادي بمقابل المدينة، فاستشار الرسول أصحابه فأشار عليه بعضهم بأن لا يخرجوا إليهم فإذا دخلوا المدينة قتلوهم فيها وأشار الآخرون بالخروج، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم أعجبه الرأي الأول لرؤيا رآها وهي أنه رأى في ذباب سيفه ثلما فأوولها هزيمة، ورأى أنه أدخل يده في درع منيعة فأوولها المدينة، إلا أن الآخرين كرروا عليه الخروج، فلبس لامته واستعد، فندم الذين أشاروا عليه وقالوا كيف نشير على نبي يأتيه الوحي واعتذروا وطلبوا إليه العدول عن رأيهم، فقال لا ينبغي لنبي يلبس لا مته فيضعها حتى يقاتل، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى وصل الشوط قريبا من أحد، والشوط حائد عند جبل أحد، انعزل عبد الله بن أبي بن سلول بأصحابه وانخذل راجعا مع المنافقين بحجة أن ليس هناك قتال، ومضى الرسول وأصحابه حتى نزلوا الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وتهيأ صلّى الله عليه وسلم للقتال، وصف أصحابه كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا أخره، أو داخلا قدمه، وأمرّ على الرماة عبد الله بن جبير وقال له انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتوننا من خلفنا إن كان علينا أو لنا، فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك، وعبأ الآخرين وقال لا تقاتلوا حتى نأمركم، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وظاهر صلّى الله عليه وسلم بين درعين، وأكد على عبد الله وأصحابه أن لا يبرحوا مكانهم ولا يتبعوا المدبرين، وقال لن نزال غالبين ما لبثتم في مكانكم، وتعبأت قريش وعلى ميمنتها خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة ابن أبي جهل، وصار النساء يضربن بالدفوف وينشدن الأشعار، فقاتلوا حتى حميت الحرب. وروى البخاري عن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا وهم الرماة عبد الله بن جبير، فقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا

صفحة رقم 391

هربنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزمهم الله، قال فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسواقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله ابن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله؟ فقالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك قوله تعالى (والرسول يدعوكم في أخراكم فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين رجلا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم أصاب من المشركين يوم بدر مئه وأربعين، سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا، فقال أبو سفيان أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال أفي القوم عمر؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال كذبت يا عدوّ الله إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك، ولا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم أر ما يسوءني.
ثم أخذ يرتجز ويقول أعلى هبل أعلى هبل، فقال صلّى الله عليه وسلم ألا تجيبوه؟ فقالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان إن لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال صلّى الله عليه وسلم ألا تجيبوه؟ قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. وكان النبي أثناء الحرب أخذ سيفا وقال من يأخذ هذا بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن؟ فأخذه أبو دجانه سماك بن حرشه الأنصاري فاعتم بعمامة حمراء وصار يتبختر في مشيته، فقال صلّى الله عليه وسلم إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموقع. قال فلما نظرت الرماة المشركين وقد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب، فقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر الرسول، فلم يصغوا، وثبت عبد الله بن جبير ونفر دون العشرة، فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في قلبه، أي في الذين هم أمامه من قومه ليتبعوه، وحمل على اصحاب رسول الله فهزموهم، وحملوا على الرماة فقتلوهم، وأقبلوا على المسلمين، وتحولت

صفحة رقم 392

الريح دبورا بعد ما كانت صبا، وانقطعت صفوف المسلمين، واختلطوا فطفقوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا من الدهش، ورمى عبد الله بن قمئة حضرة الرسول بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ونهض إلى صخرة ليعلوها، فلم يستطع وكان قد ظاهر بين درعين، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى على الصخرة، فقال صلّى الله عليه وسلم أوجب طلحة وكان حوله أبو بكر وعمر والعباس والزبير وعبد الرحمن بن سعد وتكاثر عليه المشركون وهو وأصحابه يذبونهم بأيديهم وثيابهم، ووقفت هند والنسوة يمثلن بالقتلى حتى جعلن من الآذان والأنوف قلائد وأعطينها وحشيا، وبقرت كبد حمزة رضي الله عنه فأخذت قطعة منه فلاكتها فلم تسغها فلفظتها، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل الرسول فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو صاحب رايته صلّى الله عليه وسلم فقتله وهو يظن أنه قتل حضرة الرسول، فرجع وقال قتلت محمدا، وصاح صارخ إبليس عليه اللعنة ألا إن محمدا قتل، فانكفأ الناس، قالوا ولما فشا في الناس خبر قتل رسول الله، قال بعض المسلمين ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال المنافقون نلحق بديننا الأول، وقال أنس بن النضر إن كان محمد قتل فلم يقتل ربه، وما تصنعون بالحياة بعده، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك من هؤلاء المسلمين، وأبو إليك مما جاء به المشركون، ثم شد سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله رحمة واسعة. ثم جعل رسول الله يقول إليّ عباد الله، فاجتمع إليه نحو ثلاثين وكشفوا المشركين عنه، ثم رأى رسول الله رجلا في صورة مصعب حامل لواءه، فقال تقدم يا مصعب فقال لست، بمصعب فعرف أنه ملك، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه- السّية بالتخفيف ما يظهر من طرفي القوس- ونقل له رسول الله كنانته، وقال إرم فداك أبي وأمي، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر قوسين أو ثلاثة يومئذ، وكان الرجل يمر ومعه جعبة النبل فيقول انثرها لأبي طلحة وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله إذ كان يقي بها الرسول حتى يبست، وأصببت عين قتادة بن النعمان حتى

صفحة رقم 393

وقعت على وجهه فردها الرسول لمكانها فصارت أحسن ما كانت عليه، ثم انصرف الرسول من مكانه فأدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول لا نجوت إن نجوت، فتناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه في عنقه، فسقط وخار خوار الثور يقول قتلني محمد، فقال له أصحابه لا بأس، فقال لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ومات بعد يوم. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشتد غضب الله على من قتله نبي في سبيل الله. اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه نبي الله. ولما صار الرسول يدعو الناس من على الصخرة عرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول
الله، فأشار إليه أن اسكت، فانحدرت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على الفرار، فقالوا فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا، قالوا قد قتلت فولينا مدبرين من الرعب، فنزلت هذه الآية والتي بعدها والآيات ٤٨/ ٤٩/ ٥٠ من سورة القلم في ج ١ كما أشرنا إليها فيها.
مطلب من أمي قديم، إلى حزن حادث وفي الربا ومفاسده. ووجود الجنة والنار والأوراق النقدية:
وفي هذه الساعة من يوم الثلاثاء ١٤ صفر سنة ١٣٥٨ جاء إليّ قائد الدرك السيد محمد أمين العاشق الحديدي من أهالي دير الزور نعى إلي بمزيد الأسف وفاة ملك العراق المحبوب الشريف غازي الأول بسبب اصطدام سيارته بعامود الكهرباء في بغداد، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته وجبر مصاب أهل البيت والمسلمين أجمع بفقده، وعوضهم خيرا منه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون، فتركت القلم إلى العزاء بهذا المصاب الأليم وبصفتي وكيلا للقائمقام بقضاء القنيطرة علاوة على وظيفة القضاء أمرت بتنكيس الأعلام الرسمية وقعدت لأتقبل التعزية، وهكذا لمدة ثلاثة أيام، ثم عدت بعد انتهاء العزاء إلى ما أنا فيه جعلها الله خاتمة المصائب إلى إكمال هذا الحزن الذي فيه من أسى ما وقع لجده في حادثة أحد التي تكبد فيها حضرة الرسول ما تكبد من مشاق بسبب مخالفة أصحابه أوامره، ولكن ما قدره الله أزلا فهو كائن لا محالة.

صفحة رقم 394

قال تعالى «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» لقلة عددكم وعددكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (١٢٣) نعمه، فإن التقوى هي الأساس الأقوى لنيل كل خير ودفع كل ضر، ولم تكرر لفظة بدر بالقرآن.
واذكر يا محمد لقومك «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ» يوم بدر وعليه اكثر المفسرين وقيل يوم أحد ولكل وجهة في تأويل القلة بالنسبة ليوم أحد، والكثرة بالنسبة ليوم بدر، وهو أحوج لأنه أول بادرة وقعت من المسلمين تقوية لقلوبهم وخذلانا لأعدائهم، ومقول القول «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» (١٢٤) من قبل الله منزلين الخوف بقلوب أعدائكم «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ» من ساعتهم مأخوذ من فارت القدر إذا غلت واستعير إلى السرعة الشديدة التي لا ريث فيها، ولذلك وصف الفور «هذا» لتأكيد السرعة فكأن المؤمنين لما رأوا كثرة المشركين وبلغهم أنه سيأتيهم مدد، حصل لبعضهم خوف بسبب قلتهم، فقال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم ما ذكره الله في صدر الآية وأكد لهم قربه لنصرتهم بقوله هذا، كأنه ينظر إلى نزول الملائكة من السماء ويشير إليهم قائلا هذا «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (١٢٥) معلمين بعلامات يعرفها الفارس يوم اللقاء، قال عنترة:

فتعرفوني أنني أنا ذلكم شاركي السلاح في الحوادث معلم
قال تعالى «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ» إمداد الملائكة «إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» بالنصر والمعونة «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» فتقوى ولا يتخللها الجزع من كثرة عدوها «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الذي لا غالب له النادر الوجود «الْحَكِيمِ» (١٢٦) بإعطائه النصر والظفر لمن يريد لا لمن نريد نحن حسبما هو كائن في علمه لأن كل ما يكون في الكون عبارة عن إظهار ما هو مدون أزلا عنده، لا من الملائكة ولا هو منكم، وقد فعل الله ذلك «لِيَقْطَعَ طَرَفاً» يهلك طائفة «مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ» يوهنهم ويصرعهم على وجوههم «فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» (١٢٧) من الظفر الذي أملوه في غزوتهم هذه. تشير هذه

صفحة رقم 395

الآية إلى أن القصد من إنزال الملائكة في حادثة أحد هو هذا لا غير، ولهذا ذكرهم بنصرهم بواسطة الملائكة في حادثة بدر مع قلتهم لأخذهم بتعاليم الرسول، وكان مددهم بألف من الملائكة لأن عدوهم كان ألفا، قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ) الآية ١٠ من سورة الأنفال المارة فكان النصر لكم وفي واقعة أحد هذه قد أغاثكم أولا بثلاثة آلاف لتكثير سوادكم بأعين عدوكم، وإلا فملك واحد يكفي لإبادتهم، ألم تر كيف أدخل السيد جبريل جناحه تحت قرى قوم لوط الأربع ورفعها إلى العلو ثم قلبها كما مرت الإشارة إليه في الآية ٨٢ من سورة هود ج ٢، وان عدد الخمسة آلاف مشروط (١) بالصبر (٢) والتقوى (٣) ومجيء الكفار مددا، وبما أن مدد الكفار لم يأت لسماعهم بخذلان قومهم فالآية لا تشير إلى حضورهم إلا بتلك الشروط الثلاثة، وكان الوعد بإنزال الخمسة آلاف ليناسب عدد الكفار فيها كما كان الألف مناسبا لحادثة بدر بالنسبة لعددهم والله أعلم. قالوا إن الملائكة في حادثة أحد لم تقاتل إلا عند الدفاع عن الرسول.
روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد. وقال عمير بن إسحاق لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فنى النبل أتاه فنثره وقال إرم أبا إسحاق، إرم أبا إسحاق، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف ذلك الرجل. ولهذا قال ابن عباس إن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفي بقية الحوادث تنزل تكثيرا لسواد المسلمين، وحمل ما جاء في هذا الحديث وهذا الخبر على أنهما كانا جبريل وميكائيل، ومعنى يقاتلان أي يذبان ويدافعان عنه ويردان ضربات المشركين عنه بعد ما أصابه ما أصابه، ولم يغلب المؤمنون إلا بسبب مخالفتهم تعاليم حضرة الرسول كما مرّ. قال تعالى «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» (١٢٨) روى مسلم عن مالك بن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشجّ في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو

صفحة رقم 396

يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله هذه الآية وذلك لما رأى رسول الله تمثيلهم بحمزة وتجاسرهم عليه أراد أن يدعو عليهم. وقيل إنه أقسم ليمثلنّ في سبعين من خيارهم فرد الله عليه لعلمه بإسلام بعضهم وأنه قد يولد منهم من يوحد الله تعالى، ولهذا خاطبه بأن أمر إهلاكهم ليس لك بل هو لي وحدي إن شئت عذبتهم بظلمهم وإن شئت عفوت عنهم ووفقتهم للإيمان، وهنا نزلت الآيات من آخر سورة النحل كما ألمعنا إليها في محلها ج ٢. وما قيل إن هذه الآية نزلت في حادثة بئر معونه ينافيه سياق التنزيل وسياقه ومؤخره. قال تعالى «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء و «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١٢٩) بعباده لا يعجل عقوبتهم لسابق علمه بما يئول أمرهم إليه، فقد أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت الآية، ثم يتوب عليهم كلهم كما سيأتي بعد هذا، وكان قدوم قريش إلى أحد يوم الأربعاء في ١٢ شوال سنة ٣ من الهجرة وخروج الرسول وأصحابه بعدم. ومن هنا يعلم أن الآيات من ٩٠ إلى إلى ١٢٧ نزلت متأخرة عما بعدها كما هو معلوم من سياق القصص تأمل، وكان التقاء الجمعين يوم السبت الخامس عشر منه، وسبب الانكسار ما ذكره الله من المخالفة لأمر الرسول لأنه حذرهم من مبارحة أمكنتهم وأكد عليهم ملازمتها سواء غلبوا أم غلبوا كما مر آنفا في الآية ١٢٢، وقد أراد الله بذلك أن يمنعهم عن العود إلى مثلها فيتباعدوا عن مخالفته ولا يتجاسروا على معارضته ولا يميلوا إلى غير رأيه، وأن لا يدخل في قلب أحد منهم ريب بأن ما يريده هو الصواب وليعلموا أن ظفرهم يوم بدر كان ببركة نبيهم وطاعته ولطف الله ومعونته لا بقوتهم.
وسيأتي لهذه الحادثة زيادة تفصيل بعد هذه الآيات الواردة كالمعترضة بين آيات القصة وهي قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ» بالابتعاد عن تعاطي جميع أنواع الربا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (١٣٠)

صفحة رقم 397
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية