
المنَاسَبَة: يبدأ الحديث عن الغزوات من هذه الآيات الكريمة، وقد انتقل السياق من معركة الجدل والمناظرة إلى معركة الميدان والقتال، والآيات تتحدث عن غزوة «أحد» بالإِسهاب وقد جاء الحديث عن غزوة بدر في أثنائها اعتراضاً ليذكّرهم بنعمته تعالى عليهم لمّا نصرهم ببدر وهم أذلة قليلون في العَدَد والعُدَد، وهذه الآية هي افتتاح القصة عن غزوة أحد وقد أنزل فيها ستون آية، ومناسبة الآيات لما قبلها أنه تعالى لما حذّر من اتخاذ بطانة السوء ذكر هنا أن السبب في همّ الطائفتين ن الأنصار بالفشل إنما كان بسبب تثبيط المنافقين لهم وعلى رأسهم أبي بن سلول رأس النفاق فالمناسبة واضحة، روي الشيخان عن جابر قال «فينا نزلت ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا﴾ قال نحن الطائفتان: بنو حارثة، وبنو سلمة وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾.
اللغَة: ﴿غَدَوْتَ﴾ خرجت غُدوة وهي الساعات الأولى من الصبح ﴿تَفْشَلاَ﴾ الفشل: الجبن والضعف ﴿تُبَوِّىءُ﴾ تنزل يقال: بوأته منزلا وبوأت له منزلاً أي أنزلته فيه وأصل التبوئ اتخاذ المنزل ﴿أَذِلَّةٌ﴾ أي قلة في العدد والسلاح ﴿فَوْرِهِمْ﴾ الفور: السرعة وأصله شدة الغليان من فارتْ القدر إذا غلت ثم استعملت للسرعة تقول: من فوره أي من ساعته ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بفتح الواو بمعنى معلَّمين على القتال وبكسرها بمعنى لهم علامة وكانت سيماهم يوم بدر عمائم بيضاء ﴿طَرَفاً﴾ طائفة وقطعة ﴿يَكْبِتَهُمْ﴾ الكبتُ: الهزيمة والإِهلاك وقد يأتي بمعنى الغيظ والإِذلال ﴿خَآئِبِينَ﴾ الخيبة: عدم الظفر بالمطلوب.
سَبَبُ النّزول: ثبت في صحيح مسلم» أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كسرت رباعيته يوم أحد وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلِتُ الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجّورا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟ «فأنزل الله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾.
التفِسير: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي اذكر يا محمد حين خرجت إلى أحد من عند أهلك ﴿تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي تنزّل المؤمنين أماكنهم لقتال عدوهم ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالكم عليمٌ بأحوالكم ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾ أي حين كادت طائفتان من جيش المسلمين أن تجبنا وتضعفا وهمتا بالرجوع وهما» بنو سلمة «و» بنو حارثة «وذلك حين حرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأحد بألفٍ من أصحابه فلما قاربوا عسرك الكفرة وكانوا ثلاثة آلاف انخذل» عبد الله بن أبي «بثلث الجيش وقال: علامَ نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فهمَّ الحيان من الأنصار بالرجوع فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك قوله تعالى ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾ أي ناصرهما ومتولي أمرهما ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أي في جميع أحوالهم وأمورهم، ثم ذكّرهم تعالى بالنصر يوم بدر لتقوى قلوبهُم ويتسلوا عمّا أصابهم من الهزيمة يوم أحد فقال ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ أي نصركم يوم بدر مع قلة العدد والسلاح لتعلموا أن النصر من عند الله لا بكثرة العدد والعُدد ﴿فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي اشكروه على ما منْ به عليكم من النصر ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ﴾ أي إِذ تقول يا محمد لأصحابك أما يكفيكم أن يعينكم الله بإمداده لكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين لنصرتكم ﴿بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ بلى تصديق للوعد أي بلى يمدكم بالملائكة إن صبرتم في المعركة واتقيتم الله وأطعتم أمره ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا﴾ أي يأتيكم المشركون من ساعتهم هذه ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ﴾ أي يزدكم الله مدداً من الملائكة معلَّمين على السلاح ومدربين على القتال ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ﴾ أي وما جعل الله ذلك الإِمداد بالملائكة إلا بشارة لكم أيها المؤمنون لتزدادوا ثباتاً ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ أي ولتسكن قلوبكم فلا تخافوا من كثرة عدوكم وقلة عددكم ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ أي فلا تتوهموا أن النصر بكثرة العَدَد والعُدَد،

ما النصر في الحقيقة إلا بعون الله وحده، لا من الملائكة ولا من غيرهم ﴿العزيز الحكيم﴾ أي الغالب الذي لا يغلب في أمره الحكيم الذي يفعل ما تقتضيه حكمته الباهرة ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا﴾ أي ذلك التدبير الإِلهي ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر، ويهدم ركناً من أركان الشرك ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ أي يغيظهم ويخزيهم بالهزيمة ﴿فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ﴾ أي يرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم، وقد فعل تعالى ذلك بهم في بدر حيث قتل المسلمون من صناديدهم سبعين وأسروا سبعين وأعز الله المؤمنين وأذل الشرك والمشركين ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ هذه الآية وردت اعتراضاً وهي في قصة أحد، وذلك لما كسرت رباعيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشُج وجهه الشريف قال: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم؟ {فنزلت ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾ أي ليس لك يا محمد من أمر تدبير العباد شيء وإنما أمرهم إلى الله ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي فالله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصرّوا على الكفر فإنهم ظالمون يستحقون العذاب ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي له جل وعلا وملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وهو الغفور الرحيم ﴿يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾ هذا نهيٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين عن تعاطي الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه قال ابن كثير: كانوا في الجاهلية إذا حلّ أجل الدين يقول الدائن: إمّا أن تَقْضي وإمّا أن تُرْبيي} فإن قضاه وإلاَّ زاده في المدة وزاده في القدر وهكذا كلّ عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً ﴿واتقوا الله﴾ أي اتقوا عذابه بترك ما نهى عنه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي لتكونوا من الفائزين ﴿واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي احذروا نار جهنم التي هيئت للكافرين ﴿وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي اطيعوا الله ورسوله لتكونوا من الأبرار الذين تنالهم رحمة الله.
البَلاَغَة: ١ - ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ صيغة المضارع لحكاية الماضية باستحضار صورتها في الذهن.

٢ - ﴿أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ﴾ التعرض لعنوان الربوبية مع إِضافته للمخاطبين لإِظهار كمال العناية بهم أفاده أبو السعود.
٣ - ﴿يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ﴾ بينهما طباق.
٤ - ﴿أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾ جناس الاشتقاق.
٥ - ﴿لاَ تَأْكُلُواْ الربا﴾ سمي الأخذ أكلاً لأنه يئول إليه فهو مجاز مرسل.
تنبيه: ذكر الأضعاف المضاعفة في الآية ليس للقيد ولا للشرط، وإنما هو لبيان الحالة التي كان الناس عليها في الجاهلية، وللتشنيع عليهم بأنَّ في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً حيث كانوا يأخذون الربا أضعافاً مضاعفة قال أبو حيان: «نهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها فربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين، وأشار بقوله ﴿مُّضَاعَفَةً﴾ إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام، والربا محرم بجميع أنواعه، فهذه الحال ليس قيداً في النهي».