آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ

والانفسادَ، وأنْتُمْ شُهَدَاءُ: يريدُ جَمْعَ شاهِدٍ على ما في التوراة من صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وصدقه، وباقي الآية وعيد.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ... الآية: خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، والإشارة بذلك وقْتَ نزوله إلى الأوْسِ والخَزْرَجِ بسبب نَائِرَةِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ.
قال ص: قوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ، ردَّ: بمعنى صَيَّر، فيتعدى إلى مفعولَيْنِ الأول: الكافُ، والثاني: الكافِرِينَ كقوله: [الوافر]

فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السّود بيضا وردّ وجوههنّ البيض سودا «١»
اهـ.
ويَعْتَصِمْ: معناه: يتمسَّك، وعُصِمَ الشَّيءُ، إذا مُنِعَ وحُمِيَ ومنه: قوله:
يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [هود: ٤٣] وباقي الآية بيّن.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، قال ابن مسعود: «حَقَّ تُقَاتِهِ» : هو أنْ يُطَاع فلا يُعْصَى، وأنْ يُذْكَر فلا ينسى، وأنْ يُشْكَر فلا يكفر «٢»، وكذلك عبّر
(١) وقبله:
رمى الحدثان نسوة آل حرب بمقدار سهرن له سمودا
وهو لعبد الله بن الزبير في ملحق ديوانه (ص ١٤٣- ١٤٤) و «تخليص الشواهد» (ص ٤٤٣) و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي (ص ٩٤١) و «المقاصد النحوية» (٢/ ٤١٧) ولأيمن بن خريم في ديوانه (ص ١٢٦) ولفضالة بن شريك في «عيون الأخبار» (٣/ ٧٦) و «معجم الشعراء» (ص ٣٠٩) وللكميت بن معروف في «ذيل الأمالي» (ص ١١٥) وبلا نسبة في «شرح الأشموني» (١/ ١٥٩) و «شرح ابن عقيل» (ص ٢١٧) و «لسان العرب» (٣/ ٢١٩).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٧٥) برقم (٧٥٣٤: ٧٥٤١)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ٣٣٢- ٣٣٣)، وابن عطية (١/ ٤٨٣)، والسيوطي في «الدر» (٢/ ١٠٥)، وعزاه لابن المبارك في «الزهد»، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «الناسخ»، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه.

صفحة رقم 83

الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَم «١»، وقتادةُ، والحَسَنُ، قالتْ فرقة: نزلَتِ الآيةُ على عمومِ لفظها مِنْ لزومِ غاية التقوى حتى لا يقع الإخْلاَلُ في شَيْء من الأشياءِ، ثم نُسِخَ ذلك بقوله تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦]، وبقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] وقالت جماعة: لاَ نَسْخَ هنا، وإنَّما المعنى: اتقوا اللَّهَ حَقَّ تقاته فِي ما استطعتم، وهذا هو الصحيحُ، وخرَّج الترمذيُّ، عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ، وهي: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي الدُّنْيَا، لأفْسَدَتْ على أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ، فَكيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ؟» قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وخرَّجه ابنُ ماجة أيضاً «٢» اهـ.
وقوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: معناه: دُومُوا على الإسلام حتى يوافيكم المَوْتُ، وأنتم علَيْه، والحَبْلُ في هذه الآيةِ مستعارٌ، قال ابنُ مسعودٍ: حبْلُ اللَّهِ الجماعةُ، وروى أنس بن مالك، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ افترقوا على إحدى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثنين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلاَّ واحدة،

(١) الرّبيع بن خيثم، الثوري، أبو يزيد الكوفي، مخضرم، عن ابن مسعود، وأبي أيوب، وعمرو بن ميمون، وعنه الشعبي، وإبراهيم النّخعي، وأبو بردة، قال له ابن مسعود: لو رآك النبي صلّى الله عليه وسلّم لأحبّك، توفي سنة أربع وستين، وكان لا ينام الليل كله، رحمه الله تعالى.
ينظر: «الخلاصة»
(١/ ٣١٨- ٣١٩)، و «تهذيب الكمال» (١/ ٤٠٣)، و «تهذيب التهذيب» (٣/ ٢٤٢)، و «الكاشف» (١/ ٣٠٤)، و «طبقات ابن سعد» (٦/ ١٠، ٩٦، ١١٨)، و «سير الأعلام» (٤/ ٢٥٨)، و «الثقات» (٤/ ٢٢٤).
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٧٠٦- ٧٠٧)، كتاب «صفة جهنم»، باب ما جاء في صفة شراب أهل النار، حديث (٢٥٨٥). وابن ماجة (٢/ ١٤٤٦)، كتاب «الزهد»، باب صفة النار، حديث (٤٣٢٥)، والنسائي في «التفسير» (١/ ٣١٦)، رقم (٩٠)، وأحمد (١/ ٣٠١، ٣٣٨)، والطيالسي (٢/ ١٦- منحة) رقم (١٩٥)، وابن حبان (٢٦١١- موارد)، والحاكم (٢/ ٢٩٤، ٤٥١- ٤٥٢). والبيهقي في «البعث والنشور» رقم (٥٩٦)، والطبراني في «الكبير» (١١/ ٦٨)، رقم (١١٠٦٨)، وفي «الصغير» (٢/ ٥١). كلهم من طريق شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٦٠). وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر.
وقد جاء هذا الحديث موقوفا على ابن عباس: أخرجه أحمد (١/ ٣٣٨)، وابن أبي شيبة (١٣/ ١٦١) رقم (١٥٩٩١). والبيهقي في «البعث والنشور» (٥٩٧)، من طريق الأعمش، عن أبي يحيى القتات، عن ابن عباس موقوفا، وأبو يحيى القتات، قال الحافظ: ليّن الحديث.

صفحة رقم 84

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هَذِهِ الوَاحِدَةُ؟ قَالَ: فَقَبَضَ يَدَهُ، وَقَالَ: الجَمَاعَةُ، وقرأ «١» :
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً»، وقال قتادةُ وغيره: حبْلُ اللَّهِ الَّذي أمر بالاعتصام به: هو القُرآن «٢»، ورواه أبو سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٣»، وقال ابنُ زَيْدٍ: هو الإسلام «٤»، وقيل غير هذا ممَّا هو كلُّه قريبٌ بعضُهُ مِنْ بعض.
وقوله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا: يريد: التفرُّقَ الَّذي لا يتأتى معه الائُتلافُ، كالتفرُّقِ بالفتن، والافتراقِ في العقائد، وأما الافتراقُ في مسائل الفروعِ والفِقْه، فلَيْسَ بداخلٍ في هذه الآيةِ، بل ذلك هو الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «خلاف أمّتي رحمة» «٥»، وقد اختلفت الصّحابة

(١) أخرجه ابن ماجة (٢/ ١٣٢٢)، كتاب «الفتن»، باب افتراق الأمم، حديث (٣٩٩٣)، من حديث أنس.
وقال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٢٣٩) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٧٨)، وذكره الماوردي بنحوه في «تفسيره» (١/ ٤١٢)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣٣٣)، وابن عطية (١/ ٤٨٣).
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٠٧)، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن جرير. [.....]
(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤١٤)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٨٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٠٨).
(٥) قال السخاوي في «المقاصد» (ص ٢٦- ٢٧) : أخرجه البيهقي في «المدخل» من حديث سليمان ابن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مهما أوتيتم من كتاب الله، فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة»، ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي في مسنده بلفظه سواء، وجويبر ضعيف جدا، والضحاك عن ابن عباس منقطع، وقد عزاه الزركشي إلى كتاب «الحجة» لنصر المقدسي مرفوعا من غير بيان لسنده ولا صحابيه، وكذا عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب «العلم والحكم» بدون بيان بلفظ: «اختلاف أصحابي رحمة لأمتي» قال: وهو مرسل ضعيف، وبهذا اللفظ ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية بغير إسناد، وفي «المدخل» له من حديث سفيان عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد قال:
اختلاف أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم رحمة لعباد الله. ومن حديث قتادة أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: ما سرني لو أن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة. ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا إذا علم هذا. وقد قرأت بخط شيخنا: إنه (يعني هذا الحديث) حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب في «المختصر» في مباحث القياس بلفظ: «اختلاف أمتي رحمة للناس»، وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في «غريب الحديث» مستطردا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ، وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده، ثم ذكر شيخنا شيئا مما تقدم في عزوه.

صفحة رقم 85

في الفُرُوع أشَدَّ اختلافٍ، وهم يَدٌ واحدةٌ على كُلِّ كافرٍ.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ...
الآية: هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الخطاب إنما هو للأوس والخَزْرَج كما تقدَّم، وكانَتِ العداوةُ قد دامَتْ بين الحَيَّيْنِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً حتى رفَعَها اللَّه بالإسلام، فجاء النَّفَر الستَّةُ من الأنْصَارِ إلى مكَّة حُجَّاجاً، فعرض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نَفْسَهُ علَيْهم، وتَلاَ عَلَيْهِمْ شَيْئاً مِنَ القُرآنِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ مَعَ قَبَائِلِ العَرَبِ، فَآمَنُوا بِهِ، وَأَرَادَ الخُرُوجَ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ قَدِمْتَ بَلَدَنَا على مَا بَيْنَنَا مِنَ العَدَاوَةِ وَالحَرْبِ، خِفْنَا أَلاَّ يَتِمَّ مَا نُرِيدُهُ بِكَ، وَلَكِنْ نَمْضِي نَحُنُ، وَنُشِيعُ أَمْرَكَ، وَنُدَاخِلُ النَّاسَ، وَمَوْعِدُنَا وَإيَّاكَ العَامُ القَابِلُ، فَمَضَوْا، وَفَعَلُوا، وَجَاءَتِ الأَنْصَارُ فِي العَامِ القَابِلِ، فَكَانَتِ العَقَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَكَانُوا اثني عَشَرَ رَجُلاً فِيهِمْ خَمْسَةٌ مِنَ السِّتَّةِ الأَوَّلِينَ، ثُمَّ جَاءُوا مِنَ العَامِ الثَّالِثِ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ العَقَبة الكبرى، حَضَرَهَا سَبْعُونَ، وَفِيهِمُ اثنا عَشَرَ نَقِيباً.
ووصْفُ القصَّة مستوعبٌ في السِّيرِ، ويسَّر اللَّه تعالى الأنصار للإسلام بوجْهَيْن:
أحدهما: أنَّ بني إسرائيل كانُوا مجاوِرِينَ لهم، وكانوا يقولُونَ لِمَنْ يتوعَّدونه من العَرَبِ: يُبْعَثُ لَنَا الآنَ نَبِيٌّ نَقْتُلُكُمْ معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمَ، فلمَّا رأَى النَّفَر من الأنصار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال بعضُهم لبعضٍ: هذا، واللَّهِ، النَّبيُّ الَّذِي تَذْكُرُه بَنُو إسرائيل، فلا تُسْبَقَنَّ إلَيْهِ.
والوجْهُ الآخرُ: الحَرْبُ الَّتي كَانَتْ ضرَّسَتْهم، وأفْنَتْ سراتهم، فَرَجوْا أنْ يجمع اللَّه به كلمتهم، فكان الأمر كما رَجَوْا، فعدَّد اللَّه سبحانَهُ علَيْهم نعمَتَهُ في تأليفهم بعد العَدَاوة، وذَكَّرهم/ بها قال الفَخْر «١» : كانَتِ الأنصارُ قَبْلَ الإسلام أعداءً، فلما أكرمهم اللَّه [سبحانه] «٢» بالإسلام، صاروا إخواناً في اللَّه متراحِمِينَ.
واعلم أنَّ كلَّ مَنْ كان وجهه إلى الدنيا، كان معادياً لأكثر الخَلْق، ومَنْ كان وجهه إلى خدمة المولى سبحانه، لَمْ يكُنْ معادِياً لأحدٍ لأنه يَرَى الكُلَّ أسيراً في قبضة القَضَاء والقَدَر، ولهذا قيل: إن العارف، إذا أَمَرَ، أَمَرَ برفْقٍ، ونَصَحَ لاَ بِعُنْفٍ وعُسْر، وكيف، وهو مُسْتَبْصِرٌ باللَّه في القَدَر. اهـ.
وقوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ عبارة عن الاستمرار.

(١) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ١٤٣).
(٢) سقط من أ.

صفحة رقم 86

قال ص: «أصْبَحَ» : يستعملُ لاتصافِ الموصوفِ بصفَتِهِ وقْتَ الصَّباحِ، وبمعنى «١» «صَارَ»، فلا يلحظ فيها وقْت الصباح، بل مطْلَق الانتقال والصيرورةِ مِنْ حالٍ إلى حالٍ، وأَصْبَحَ: هنا بمعنى صَارَ، وما ذكره ابنُ عطية «٢» مِنْ أنَّ «أَصْبَحَ» لِلاستمرارِ، لم يذهَبْ إليه أحَدٌ من النَّحْوِيِّين. اهـ.
قلْتُ: وفيما ادَّعاه نَظَرٌ، وهي شهادةٌ على نَفْيٍ. وكلامٍ.
ع «٣» : واضحٍ من جهة المعنى، والشَّفَا: حَرْفُ كلِّ جِرْمٍ له مهوى كالحفرة، والبِئْر، والجُرُفِ، والسَّقْفِ، والجِدَار، ونحوه، ويضافُ في الاستعمالِ إلى الأعلى كقوله: شَفا جُرُفٍ [التوبة: ١٠٩]، وإلى الأسفلِ كقوله: شَفا حُفْرَةٍ فشبَّه اللَّه كفرهم الذي كانوا عليه بالشَّفَا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنّم دأبا، فأنقذهم اللَّه منها بالإسلام.
وقوله تعالى: فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، أي: مِنَ النَّار، ويحتمل من الحُفْرة، والأول أحسن، قال العراقيّ: أنقذكم، أي: خلَّصكم. اهـ.
وقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ: أَمْرَ اللَّه سبحانه الأمَّةَ بأنْ يكونَ منْها علماءُ يَفْعَلُونَ هذه الأفعالَ على وجوهها، ويحْفَظُونَ قوانينَها، ويكون سائِرُ الأمَّة مُتَّبِعِينَ لأولئك، إذ هذه الأفعالُ لا تكُونُ إلاَّ بعلْمٍ واسعٍ، وقد عَلِمَ اللَّه سبحانه أنّ الكلّ

(١) أصبح من أخوات «كان»، فإذا كانت ناقصة كانت مثل «كان» في رفع الاسم ونصب الخبر، وإذا كانت تامة رفعت فاعلا واستغنت به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول: «أصبح زيد» أي دخل في الصباح، ومثلها في ذلك «أمسى»، قال تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: ١٧] وقوله: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
[الصافات: ١٣٧] وفي أمثالهم: «إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنّه مصبح» لأنّ القين- وهو الحدّاد- ربما قلّت صناعته في أحياء العرب فيقول: أنا غدا مسافر، ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيم ويترك السفر، فأخرجوه مثلا لمن يقول قولا ويخالفه، فالمعنى أنه مقيم في الصباح، وتكون بمعنى «صار» عملا ومعنى كقوله:
١٣٧٩- فأصبحوا كأنّهم ورق جف ف فألوت به الصّبا والدّبور
أي: صاروا. و «إخوانا» خبرها، وجوّزوا فيها هنا أن تكون على بابها من دلالتها على اتّصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح، وأن تكون بمعنى «صار»، وأن تكون التامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصة على بابها فالأظهر أن يكون «إخوانا» خبرها. ينظر: «الدر المصون» (٢/ ١٧٨).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٨٤).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٨٥).

صفحة رقم 87

لا يكُونونَ علماء، ف «مِنْ» هنا: للتبعيضِ، وهو تأويلُ الطبريِّ «١» وغيره.
وذهب الزَّجَّاج «٢» وغيرُ واحدٍ إلى أنَّ المعنى: ولتكونوا كلُّكم أمةً يدْعُونَ، و «مِنْ» : لبيانِ الجنْس، ومعنى الآية على هذا: أمر الأمة بأنْ يَدْعُوا جميعَ العَالَمِ إلى الخَيْر، فيَدْعُون الكُفَّار إلى الإسلامِ، والعُصَاةَ إلى الطاعةِ، ويكونُ كلُّ واحدٍ في هذه الأمور على منزلته من العلْمِ والقدرةِ، وروى الليثُ بْنُ سَعْدٍ «٣»، قال: حدَّثني محمَّدُ بْنُ عَجْلاَن «٤»، أنَّ وَافِداً النَّضْرِيَّ أَخْبَرَهُ عَنْ أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ:
«لَيُؤْتَيَنَّ بِرِجَالٍ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ لِمَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّهِ، يَكُونُونَ على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ قال: هُمُ الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى النَّاسِ، وَيُحَبِّبُونَ النَّاسَ إلَى اللَّهِ، وَيَمْشُونَ فِي الأَرْضِ نُصْحاً، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى النَّاسِ، فَكَيْفَ يُحَبِّبُونَ النَّاسَ إلَى اللَّهِ؟! قَالَ: يَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، فَإذَا أَطَاعُوهُمْ، أَحَبَّهُمُ اللَّهُ تعالى» «٥» اهـ من «التذكرة» «٦» للقرطبيّ.

(١) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٣٨٥) بنحوه.
(٢) ينظر: «معاني القرآن» (١/ ٤٥٢).
(٣) ليث بن سعد بن عبد الرّحمن الفهمي، مولاهم، الإمام، عالم «مصر» وفقيهها ورئيسها، عن سعيد المقبري، وعطاء، ونافع، وقتادة، والزهري وصفوان بن سليم، وخلائق. وعنه ابن عجلان، وابن لهيعة، وهشيم، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وأمم. قال ابن بكير: هو أفقه من مالك. وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث ثمانين ألف دينار ما وجبت عليه زكاة قط. وثقه أحمد وابن معين والناس. قال ابن بكير: ولد سنة أربع وتسعين، وتوفي سنة خمس وسبعين ومائة.
ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (٢/ ٣٧١).
(٤) محمد بن عجلان القرشي، أبو عبد الله المدني، أحد العلماء العاملين. عن أنس، وأبي حازم، والأعرج، وعكرمة، وطائفة. وعنه عبد الوهاب بن بخت، ومنصور، وشعبة، والثوري، ومالك، وخلق. وثقه أحمد وابن معين. وذكره البخاري في الضعفاء. حمل به ثلاث سنين. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. روى له البخاري تعليقا، ومسلم متابعة.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٤٣٨)، و «تهذيب الكمال» (٣/ ١٢٤٢)، و «الكاشف» (٣/ ٧٧)، و «تقريب التهذيب» (٢/ ١٩٠)، و «لسان الميزان» (٧/ ٣٦٨).
(٥) أخرجه العقيلي (٤/ ٣٣١)، وابن عدي في «الكامل» (٧/ ٩٢- ٩٣)، من طريق الليث بن سعد، عن جابر بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال.
وأسند العقيلي عن البخاري قوله: واقد بن سلامة النضري لم يصح حديثه.
وذكره العقيلي، وابن الجارود في «الضعفاء»، وقال الحافظ في «اللسان» : ضعفوه.
ينظر: «لسان الميزان» (٦/ ٢١٥).
(٦) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (٢/ ٦٢٠).

صفحة رقم 88
الجواهر الحسان في تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية