
الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، فلا معبود بحق إلا الله، ولا إله سواه.
٤- إن ضرب الأمثال أي بيانها وعقد المقارنة بين المتشابهات أمر مفيد للناس، لمعرفة حقائق الأمور، ولكن لا يفهم تلك الأمثال إلا العالمون بالله تعالى.
قال أبو حيان: وكان جهلة قريش يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة، فتبرزها وتصورها للفهم، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد «١».
٥- حقا إن المشرك في غاية الجهل في الاعتقاد، لذا كانت هذه الآيات تجهيلا للمشركين، حيث عبدوا ما ليس بشيء، لأنه جماد، لا علم لديه، ولا قدرة أصلا عنده، وتركوا عبادة القادر القاهر، الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا لحكمة.
أما المسلم المؤمن قلبه بالله فهو واع لما يفعل، مقدر ما يعبد، يبغي الخير في عبادته، ويحسن العمل في اتباع الشرع لأن فيه نجاته وإنقاذه، ويصل إلى مبتغاه فعلا بجلب النفع والخير، ودفع الضرر والشر.
فائدة خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)

المفردات اللغوية:
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ محقا غير قاصد به باطلا، وقصده بالذات من خلقهما إفاضة الخير، والدلالة على ذاته وصفاته، كما أشار إليه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دلالة على قدرته تعالى. لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم المنتفعون بها في الإيمان، بخلاف الكافرين.
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ القرآن، تقربا إلى الله بقراءته، واستكشافا لمعانيه، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها لأنها تذكر بالله، وتورث النفس خشية، أي من شأنها ذلك. والمنكر: القبيح شرعا وعقلا.
روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف له، فقال: «إن صلاته تنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب.
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبر عنها بالذكر لاشتمالها على الذكر الذي هو العمدة في تفضيلها على سائر الحسنات ونهيها عن السيئات. ويصح أن يكون المعنى: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ منه ومن سائر الطاعات، فيجازيكم به أحسن المجازاة.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى الناس بالإيمان، وأبان ضعف دليل الكفار على عبادة معبوداتهم، لفت النظر إلى من تجب له العبادة وهو الذي لا يعجزه شيء، وخالق السموات والأرض، والمرشد بكتابه إلى معالم الحق، والمبين طريق العبادة المرضية له وهو الصلاة. كما أن في الآيات تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن إعراض الكفار واليأس منهم، بالتأمل في خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن الدال على أن الرسل السابقين كنوح وإبراهيم ولوط بلغوا الرسالة، وأقاموا الأدلة على الإيمان بالله تعالى، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة.
التفسير والبيان:
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الله تعالى أوجد وأبدع السموات والأرض للدلالة على قدرته العظيمة، وإفاضة الخير، ولحكم وفوائد دينية ودنيوية، فقد خلقهما محقا غير قاصد الباطل، ولم

يخلقهما عبثا ولهوا ولعبا، وفي ذلك دلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والألوهية، كما
جاء في رواية عن الله عز وجل: «كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني»
إلا أنه لم يصح حديثا، ومعناه صحيح مستفاد من قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات ٥١/ ٥٦].
ولا ينتفع بتلك الدلالات ولا يفهم هذه الأسرار إلا المؤمنون المصدقون بالله ورسوله لأنهم يستدلون بآثار الخلق على وجود المؤثر فيها.
ثم أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن وهو قراءته وإبلاغه للناس للاستزادة من المعرفة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وحكمته فقال:
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي اقرأ يا محمد ومثلك كل مسلم، وأدم تلاوة هذا القرآن وتبليغه للناس، فإنه إمام ونور، وهدى ورحمة، ودليل خير ونجاة، وعلاج ما استعصى من الأزمات والمحن، وتخطي مراحل اليأس والقنوط.
كذلك أمر تعالى بالصلاة قرة عين المؤمن فقال:
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي وأدّ أيها النبي وكل مؤمن فريضة الصلاة ونافلتها تامة الأركان والشروط، مع الخشوع والخضوع لله، واستحضار خشية الله في جميع مراحلها، فهي تشتمل بمواظبتها على شيئين:
ترك الفواحش والمنكرات، وهي عماد الدين، وصلة بين العبد وربه، ودليل الإيمان واليقين، وفرجة المكروب والمحزون، وسبب لتطهير العبد من آثار الذنوب والمعاصي.
جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني وغيره من رواية عمران وابن عباس مرفوعا: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده من الله إلا بعدا»
وروى أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «حبّب إلي من دنياكم النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة».

وكل ذلك مشروط بأدائها بخشوع وخضوع وإخلاص كما ذكر، حتى تكون ذات مدلول وروح، وذات إشعاع تملأ النفس استحضارا لعظمة الله والخوف منه، وإلا كانت مجرد حركات وأفعال مادية فاقدة الأثر المقصود منها. ثم أكد تعالى رفعة شأن الصلاة فقال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات، وذكر الله وتفقده الناس العابدين برحمته أكبر من ذكرهم إياه بطاعته، والله عليم بما تصنعون من خير أو شر، وعليم بذات الصدور، يعلم جميع أقوالكم وأفعالكم ونياتكم: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه ٢٠/ ٧] وفي ذلك وعد ووعيد، وحث على مراقبة الله في كل الأحوال، فمن يعلم أن الله يسمعه ويراه، لزم الحياء، وخشي العذاب، وأحسن العبادة. ومن أتى بالذكر النافع وهو الحاصل عن علم وتأمل ووعي قلب وتفرغ نفس مما سوى الله، نال المراد، وحقق المبتغى، وأما ما كان مجرد لقلقة باللسان، دون استحضار لعظمة الله وخشوع معه، فلا خير فيه ولا نفع.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- خلق الله السموات والأرض على وجه الإحكام والإتقان والعدل والقسط، ولأهداف وغايات دينية ودنيوية، منها أن الإنسان يستدل بهما على وجود الخالق القادر الكامل الشامل العلم، الذي لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات فيهما، ولا يعجزه شيء فيهما.
٢- إن المستفيد من خلق السموات والأرض هو الإنسان، ولا ينتفع في دلالتهما على الاعتقاد بوجود الخالق الواحد إلا المصدقون بالله ورسوله.
٣- على المسلم مواظبة التلاوة لآي القرآن، وتبليغ أحكامها المستفادة منها، فإن القرآن كتاب هداية، ودستور حياة فاضلة.

٤- على المؤمن أيضا استدامة إقامة الصلاة: وهو أداؤها في وقتها بقراءتها، وركوعها وسجودها، وقعودها، وتشهدها، وجميع شروطها.
٥- إن الصلوات الخمس لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة تنهى عن الفواحش والمنكرات، وتكفّر ما بينها من الذنوب إذا أديت بحقها وكانت مع استحضار عظمة الله وبأسه،
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا».
وروى أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فذكر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إن الصلاة ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألم أقل لكم؟».
ويؤكده
الحديث المتقدم الذي رواه الطبراني وغيره: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا، ولم يزدد بها من الله إلا مقتا».
قال أبو العالية في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ:
إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله: القرآن يأمره وينهاه.
٦- دل قوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ على أن الصلاة أكبر من سائر الطاعات وأفضل من كل العبادات، وأن ذكر الله لعباده بالثواب والثناء عليهم ورحمته إياهم أكبر من ذكرهم له في عبادتهم وصلواتهم، وكذلك أن تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ينبغي أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم.

روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في قول الله عز وجل: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ: «ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه».
وفي حديث آخر: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم» «١».
٧- الذكر النافع: هو الذي يكون مع العلم، وإقبال القلب، وتفرغه، إلا من الله، وأما ما لا يتجاوز اللسان فله رتبة أخرى.
وذكر الله تعالى للعبد: هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه، قال الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة ٢/ ١٥٢].
٨- إن قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ نوع من الوعد والوعيد، وحث على مراقبة الله تعالى في السرّ والعلن.
آمنت بالله تعالى انتهى الجزء العشرون