آيات من القرآن الكريم

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ

بهذا المعنى هالك ومعدوم بالقوة أو بالفعل إذ وجوده من غيره، وهو موقوت بوقت مهما طال، كل شيء هالك إلا ذاته- جل شأنه- فهو الواجب الوجود القديم الباقي الذي لا يجوز عليه العدم والفناء بحال من الأحوال.
له الحكم وإليه وحده الأمر كله، وإليه وحده ترجعون فتحاسبون، وتجازون على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر...
سورة العنكبوت
مكية كلها في قول بعضهم، وعن ابن عباس إنها مكية إلا عشر آيات من أولها، والظاهر أنها نزلت بين مكة والمدينة كما قال على بن أبى طالب... وهي تسع وستون آية. وعلى العموم فإنها تدور حول بيان حقيقة الإيمان، وما يصادف المؤمنين من فتن تصهرهم وتقوى روحهم ومع ذلك فالنصر للإيمان، وقد جاء القصص مؤيدا لذلك مع ضرب المثل لقوة الكفار وآلهتهم، ونتيجة الجهاد في سبيل الله.
شحذ عزائم المسلمين وتقوية إرادتهم وتهديد أعدائهم [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)

صفحة رقم 854

المفردات:
أَحَسِبَ النَّاسُ أظنوا وتخيلوا لا يُفْتَنُونَ الفتنة: الابتلاء والاختبار بالشدائد التي تصادف الناس أَنْ يَسْبِقُونا أى: يفوتونا فلا ننتقم منهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس حكمهم يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أى: يأمل في لقائه وثوابه، قيل:
يخاف لقائه.
لقد ذكر الفخر الرازي- رحمه الله- في تفسيره مسائل في تفسير هذه الآية، منها مسألة في حكمة افتتاح هذه السورة بقوله الم وأنا ألخصها فيما يأتى:
البليغ الحكيم إذا خاطب مشغول البال، أو من هو في غفلة، يقدم ما يجعل المخاطب يلتفت إليه، ويتجه بقلبه ثم يشرع فيما يريده، وهذا المقدم قد يكون كلاما له معنى مفهوم مثل: اسمع. التفت تنبه إلخ، وقد يكون أداة استعملت للتنبيه كأدوات النداء والاستفتاح مثل أمحمد. يا على: ألا يا خالد، وقد يكون المقدم صوتا غير مفهوم كالتصفير مثلا أو التصفيق باليد إلخ.
ومن المألوف في أساليب اللغة أن ألفاظ التنبيه تستعمل عند الغفلة على حسبها، وتستعمل على شكل واسع إذا كان المقصود من الكلام مهما، وموضعه خطيرا.
وإذا قدم المتكلم البليغ على كلامه لفظا غير مفهوم المعنى، كان ذلك أدعى للالتفات، وأقوى في التنبيه لما بعده مثل الحروف الهجائية التي تفتتح بها السور فإن قال قائل: ما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟ فالجواب: أن عقل البشر قاصر عن إدراك الأشياء الجزئية والحكم المقصودة من ذلك، والله ورسوله أعلم بذلك كله.
ولكن هذا لا يمنع من ذكر ما يوفقنا الله له فنقول (أى الفخر) : كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو القرآن، واقرأ أول سورة البقرة وآل عمران. والأعراف. ويس. وق والقرآن المجيد. والحواميم إلا ثلاث سور: سورة مريم، والعنكبوت هذه، والروم...
ولعل الحكمة كما قلنا سابقا أن القرآن عبء ثقيل، وفيه أحكام وحكم، وهو دستور

صفحة رقم 855

الأمة، فإذا تكلم القرآن على نفسه في أول السورة وجب أن يقدم التنبيه الذي يوقظ النفوس، ويحرك المشاعر.
ولعل بدء السورة التي ليس في أولها ذكر للكتاب كما هنا وفي سورة الروم، ومريم بحروف ليست لها معاني معروفة لخطر ما بدئت به وأهميته حتى احتاجت إلى هذا التنبيه، ولا عجب ففتنة المسلم كما هنا، وذكر زكريا ويحيى وعيسى كما في سورة مريم والإخبار بالمغيبات في سورة الروم غاية الأهمية ولقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع، وهو موضوع شائك ولعل سلوى الجميع فيه وفي أمثاله قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة آل عمران آية ٧].
المعنى:
ألم. أظن الناس أن يتركوا لأنهم قالوا آمنا في حال أنهم لا يفتنون، ولا يبتلون بأنواع المحن والفتن؟ التي تمحص المتقين المخلصين من المنافقين الكاذبين وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران ١٥٤].
نزلت هذه الآيات في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كسلمة بن هشام. وعياش بن أبى ربيعة. والوليد بن الوليد.
وعمار بن ياسر. وياسر أبوه وسمية أمه، فكانت صدورهم تضيق بذلك وربما استنكر بعض الناس أن يمكن الله الكفار من المؤمنين!.
فنزلت هذه الآية مسلية ومعلنة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبار للمؤمنين وفتنة لهم وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [سورة آل عمران آية ١٤١].
قال بعض العلماء: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه فهي باقية في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم موجود حكمها ما دام هناك إسلام وحق يدافع عنه بعض الناس، فلا بد من وجود إيذاء وشدائد لهم.
ولقد فتنا الذين من قبلهم، وابتليناهم قديما كما ابتلينا إبراهيم بإلقائه في النار، وكما

صفحة رقم 856

حصل لقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه أبدا
وروى البخاري عن خباب ابن الأرت: قال شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟.
فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دين الله. والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلّا الله والذّئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون».
فليعلن الله الذين صدقوا أى: فليظهرن الله الذين صدقوا، وليظهرن الكاذبين، إذ علمه بهم حاصل قبل الاختبار وبعده.
بل أحسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا فلا ندركهم؟ أظنوا أنهم يفوتوننا فلا ننتقم منهم. لا. بل إن ربك لبالمرصاد، وسيجازيهم على أعمالهم جزاء وفاقا.
ألا ساء حكمهم وتقديرهم إن فهموا أنهم يسبقوننا.
من كان يرجو لقاء الله ويؤمل ثوابه، ويخاف عقابه فليستعد لذلك اليوم استعدادا كاملا، وليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، فإن أجل الله لآت له، وإن وقته المضروب للقائه آت بلا شك، فمن الخير له الاستعداد لذلك اللقاء بالعمل الصالح، والله هو السميع لكل قول، العليم بكل فعل.
وقد مضت حقائق ثلاثة: هي اختبار المؤمن بالفتن، وعقاب العاصي على العمل، وجزاء المحسن الذي يرجو لقاء ربه آت بلا شك ولا جدل، وربك الغنى عن عباده الطائعين، ولا يضره عصيان العاصين، ومن جاهد نفسه وهواه، واتبع طريق الحق والعدل والكرامة فإنما يجاهد لنفسه لا لغيره مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها «١» إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «٢».
والذين آمنوا وعملوا الصالحات من الأعمال لنكفرن عنهم سيئاتهم التي قد يلمون بها. فالإنسان لا بد أن يرتكب بعض السوء وإن لم يشعر به خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
«٣».

(١) سورة فصلت الآية ٤٦.
(٢) سورة الإسراء الآية ٧.
(٣) سورة التوبة الآية ١٠٢.

صفحة رقم 857
التفسير الواضح
عرض الكتاب
المؤلف
محمد محمود حجازي
الناشر
دار الجيل الجديد
سنة النشر
1413
الطبعة
العاشرة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية