
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات﴾ «أم» هذه منقطعة، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور، والإضراب انتقال لا إبطال.
قال ابن عطية: أم معادلة للألف في قوله: «أحسب» وكأنه عزّ وجلّ قرر الفريقين، قرر المؤمنين أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين أنهم يسبقون نقمات الله.

قال أبو حيان: «ليست معادلة» ؛ إذ لو كانت كذلك لكانت متصلة، ولا جائز أن تكون متصلة لفقد شرطين:
أحدهما: أن ما بعدها ليس مفرداً، ولا ما في قوته.
والثاني: أنه لم يكن هنا ما يجاب به من أحد شيئين أو أشياء.
وجوز الزمخشري في «حسب» هذه أن تتعدى لاثنين، وجعل «أن» وما في خبرها سادةً مسدهما، كقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾ [البقرة: ٢١٤]، وأن تتعدى لواحدٍ على أنها مضمنة معنى «قدر»، إلا أن التضمين لا ينقاس
قوله: «ساء ما يحكمون} يجوز أن تكون» ساء «بمعنى بئس فتكون» ما «إما موصولة بمعنى الذي، و» يحكمون «صلتها، وهي فاعل ساء، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم.
ويجوز أن تكون» ما «تمييزاً، و» يحكمون «صفتها، والفاعل مضمر يفسره» ما «والمخصوص أيضاً محذوف.
ويجوز أن تكون ساء بمعنى قَبُحَ، فيجوز في» ما «أن تكون مصدرية، وبمعنى الذي، ونكرة موصوفة، وجيء ب» يحكمون «دون» حكموا «إما للتنبيه على أن هذا ديدنهم وإما لوقوعه موقع الماضي لأجل الفاصلة.
ويجوز أن تكون ما مصدرية وهو قول ابن كَيْسَانَ فعلى هذا يكون التمييز محذوفاً، والمصدر المؤوّل مخصوص بالذم أي ساء حكماً حكمُهُمْ.

وقد تقدم حكم» ما «إذا اتصلت ببئس مشبعاً في البقرة.
فصل
لما بين حسن التكليف بقوله: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا﴾ بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب، وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال، ولا يفوت الله شيء. في الحال ولا في المآل.
فقوله: ﴿أم حسب الذين يعملون السيئات﴾ يعني الشرك» أن يسبقونا «أي يعجزونا ويفوتونا، فلا نقدرعلى الانتقام منهم ﴿ساء ما يحكمون﴾ بئس ما حكموا حين ظنوا ذلك.
قوله: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو﴾ يجوز أن تكون من شرطية، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبهها بالشرطية.
فإن قيل: المعلق بالشرط عُدِمَ عَدَم الشرط، فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له، وهذا باطل، لأن أجل الله آت لا محالة من غير تقييد بشرط؟
فالجواب: أن قوله: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ﴾ ليس بجواب، بل الجواب محذوف، أي فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً كما قد صرح به.
وقال ابن الخطيب: المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما يعده من الثواب أي من كان يرجو لقاء الله فإن أجره لآتٍ بثواب الله، أي يُثَابُ على طاعته، ومن لا يرجو لقاء الله آتياً له على وجه الثواب.
فصل
قال ابن عباس ومقاتل: من كان يخشى البعث والحساب. والرجاء بمعنى الخوف. وقال سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب. صفحة رقم 315

وقال مقاتل: يعني أن يوم القيامة لكائن والمعنى: أن من يخشى الله ويأمله فليستعد له، وليعمل لذلك اليوم، كقوله ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً﴾ [الكهف: ١١٠] الآية كما تقدم.
﴿وهو السميع العليم﴾ ولم يذكر صفة غيرهما، لأنه سبق القول في قوله: ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا﴾ وسبق القول بقوله: ﴿وهم لا يفتنون﴾ وبقوله: ﴿فليعلمن الله الذين صدقوا﴾ وقوله: ﴿أم حسب الذين يعملون السيئات﴾ ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما يدرك بالبصر، ومنه ما لا يدرك به، والعلم يشملهما، فقال: ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي يسمع ما قالوه، ويعلم من صدق فيما قال، ومن كذب أو عليم بما يعمل فيثيب ويعاقب.
قوله: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ أي له ثوابه، والجهاد هو الصبر على الشدة، ويكون ذلك في الحرب، وقد يكون على مخالفة النفس.
فإن قيل: هذه الآية على أن الجزاء على العمل واجب، فإن قوله: ﴿فإنما يجاهد لنفسه﴾ يفهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح.
فالجواب: هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق.
فإن قيل: قوله «فإنما» يقتضي الحصر، فيكون جهاد المرء لنفسه فقط ولا ينتفع به غيره وليس كذلك، فإن من جاهد ينتفع به هو، ومن يريد نفعه حتى إن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعون به.
فالجواب: أن ذلك نفع له، فإن انتفاع الولد انتفاع للأب، والحصر هنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع، ويدل عليه قوله: ﴿إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ أي عن أعمالهم وعبادتهم.
قوله: «والَّذِينَ آمنُوا» يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء والخبر جملة القسم المحذوفة وجوابها أي: والله لنكفرن. ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر عل الاشتغال، أي: وليخلص الذين آمنوا من سيئاتهم.
والتكفير: إذهاب السيئة بالحسنة، والمعنى: لنُذْهِبَنَّ سيئاتهم حتى تصير بمنزلة من لم يعمل.
فإن قيل: قوله: فلنكفرن (عنهم سيئاتهم يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، «والذين آمنوا عملوا الصالحات» بأسرها من أين يكون) لهم سيئة؟
فالجواب: ما من مكلف إلا وله سيئة، أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن

ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى:
﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣].
قوله: ﴿أَحْسَنَ الذي كَانُواْ﴾، قيل: على حذف مضاف، أي: ثواب الذي فالمراد بأحسن هنا مجرد الوصف.
قيل: لئلا يلزم أن يكون جزاؤهم مسكوتاً عنه، وهذا ليس بشيء، لأنه من باب الأولى إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى.
قال المفسرون: يجزيهم بأحسن أعمالهم وهو الطاعة.
وقيل: يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن، كما قال: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] قوله: «حُسْناً» فيه أوجه:
أحدها: أنه نعت مصدر محذوف أي (إيصَاءً) حسناً، إما على المبالغة جعل نفس الحسن، وإما على حذف مضاف (أي: ذا حُسنٍ).
الثاني: أنه مفعول به، قال ابن عطية: «وفي ذلك تجوز»، والأصل ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه، ونظير ذلك قول الشاعر:
٤٠٢٥ - عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إذْ تَشْكُونَا | وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إذْ يُوصينا |
٤٠٢٦ - (وَصَّيْتَ مِنْ بَرَّةَ قَلْباً حَرَّا | بِالْكَلْبِ خَيْراً وبِالحَمَاةِ شَرَّا |