آيات من القرآن الكريم

يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ

قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه
- ١- الأدلة على الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والبعث
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٦ الى ٢٣]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
الإعراب:
وَإِبْراهِيمَ منصوب عطفا على نوح في آية: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أي وأرسلنا إبراهيم، أو عطفا على هاء فَأَنْجَيْناهُ أو منصوب بتقدير فعل، تقديره: واذكر إبراهيم. والعامل في إِذْ قالَ هو العامل في إِبْراهِيمَ فهو على الأول ظرف لأرسلنا.

صفحة رقم 211

إِفْكاً إما مصدر نحو كذب ولعب وإما صفة لفعل أي خلقا ذا إفك وباطل.
لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً يحتمل كونه مصدرا بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم، وأن يراد المرزوق، وتنكيره للتعميم.
البلاغة:
يُبْدِئُ ويُعِيدُهُ يُعَذِّبُ ويَرْحَمُ بين كلّ طباق.
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أسلوب الإطناب للتشنيع عليهم في عبادة الأوثان.
يَسِيرٌ وسِيرُوا فِي الْأَرْضِ بينهما جناس ناقص غير تام.
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ التصريح باسم الله هنا بعد إضماره في قوله بَدَأَ الْخَلْقَ للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء يحكم له بالقدرة على الإعادة، لأنها أهون.
المفردات اللغوية:
وَاتَّقُوهُ خافوا عقابه. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه من عبادة الأصنام. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير من غيره وتميزون ما هو شر مما هو خير. أَوْثاناً جمع وثن: وهو ما اتخذ من جص أو حجر، والصنم: ما كان من معدن كنحاس وغيره، والتمثال: ما هو مثال لكائن حي. وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً تقولون كذبا في تسميتها آلهة، وادعاء شفاعتها عند الله، وأنها شركاء لله، وهو دليل على شرّ ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل لا حقيقة له.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً لا يقدرون أن يرزقوكم، وهو دليل ثان على شر ما هم عليه، من حيث إن تلك الأوثان لا تجدي شيئا. فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ اطلبوه منه، فإنه المالك له. وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، شاكرين له نعمه. إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي مستعدين للقائه بالعبادة والشكر، فإنكم راجعون إليه.
وَإِنْ تُكَذِّبُوا أي تكذبوني. فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبلي من الرسل، فلم يضرهم تكذيبهم، وإنما ضرّ أنفسهم، حيث تسبب لما حلّ بهم من العذاب، فكذا تكذيبكم.
إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إلا البلاغ البيّن الذي زال معه الشك.
وهذه الآية: وَإِنْ تُكَذِّبُوا وما بعدها إلى قوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ من جملة قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون المذكور اعتراضا، بذكر شأن النبي صلّى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم

صفحة رقم 212

والوعيد على سوء صنيعهم، وهو توسط بين طرفي قصة، من حيث إن مساقها لتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم والترويح عنه بأن أباه خليل الله مني بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم، وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه.
يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي يخلقهم ابتداء من مادة وغيرها. ثُمَّ يُعِيدُهُ يعيد الخلق بعد الموت كما بدأهم. إِنَّ ذلِكَ المذكور من الخلق والإعادة. عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء، فكيف ينكرون الثاني؟ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ لمن كان قبلكم وأماتهم، على اختلاف الأجناس والأحوال. ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ هي إعادة الخلق مرة أخرى، بعد النشأة الأولى التي هي الإبداء، فإنه والإعادة نشأتان، من حيث إن كلّا منهما اختراع وإخراج من العدم، فالنشأة: الخلق والإيجاد. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه البدء والإعادة لأن قدرته لذاته وكل الممكنات بالنسبة إلى ذاته سواء، فيقدر على النشأة الأخرى، كما قدر على النشأة الأولى.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه. وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي تردّون بعد موتكم. بِمُعْجِزِينَ ربكم عن إدراككم، أي جاعلين الله عاجزا. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لا تفوتونه أينما كنتم، سواء بالتواري في الأرض أو التحصن في السماء. مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره. مِنْ وَلِيٍّ قريب، أو متولي الأمر يمنعكم منه. وَلا نَصِيرٍ معين، ينصركم من عذابه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيته أو بكتبه. وَلِقائِهِ بالبعث. يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة، فعبر عنه بالماضي لتحقق الوقوع والمبالغة فيه.
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بكفرهم.
المناسبة:
بعد الانتهاء من بيان قصة نوح أبي البشر الثاني عليه السلام، أورد الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وإمام الحنفاء، بقصد عرض نماذج من سيرة الأنبياء للنبي صلّى الله عليه وسلم ليتأسى بهم، ويسلو عما أهمه من إعراض قومه عن دعوته، كما بيّنت.

صفحة رقم 213

التفسير والبيان:
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي واذكر أيها الرسول لقومك حين دعا إبراهيم عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في السر والعلن، واتقاء عذابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فإذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر فيهما، إن كنتم ذوي إدراك وعلم، تميزون به بين الخير والشر، وتفعلون ما ينفعكم.
فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ معناه: أخلصوا له العبادة والخوف. ثم أقام إبراهيم لقومه دليلين على التوحيد وعلى فساد ما هم عليه، وشر ما يسيرون عليه، فقال:
الدليل الأول:
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي إن الأصنام التي تعبدونها من غير الله، ما هي إلا أشياء مصنوعة من جص أو حجر، صنعتموها بأيديكم، فلا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، فسميتموها آلهة، وادعيتم أنها تشفع لكم عند ربكم، وإنما هي مخلوقة أمثالكم، فأنتم تكذبون حين تصفونها بأنها آلهة.
فقوله: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً معناه: تختلقون الإفك أي الكذب والباطل، بتسمية الأوثان آلهة، وشركاء لله، أو شفعاء إليه.
الدليل الثاني:
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله، لا تقدر أن تجلب لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا، فكيف تعبدونها؟!

صفحة رقم 214

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي فاطلبوا الرزق من عند الله، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها، فإن غيره لا يملك شيئا، تدركوا ما تطلبون، فكلوا من رزق الله، واعبدوه وحده، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من مزيد الفضل، واستعدوا للقائه، فإليه ترجعون يوم القيامة، وتسألون عما أنتم عليه من عبادة غيره، ويجازي كل عامل بعمله.
ثم أقام إبراهيم دليلا على الرسالة، فقال:
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي وإن تكذبوني في رسالتي، فلا تضروني أبدا، فإن الأمم السابقة كذبوا رسلهم، ولكن بلغكم ما حلّ بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، فأضروا أنفسهم بذلك، وما المطلوب الواجب على الرسول إلا أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء، وعلى الله الحساب.
فقوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ معناه: لا واجب عليه إلا التبليغ، وهو ذكر المسائل والأوامر المنزلة من عند الله، والإبانة: وهي إقامة البرهان على ما جاء به.
وبعد بيان الأصل الأول والاستدلال عليه وهو التوحيد، والإشارة إلى الأصل الثاني وهو الرسالة، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، وهذه الأصول الثلاثة متلازمة لا يكاد ينفصل ذكر بعضها عن بعض في البيان الإلهي، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي أولم يشاهدوا كيفية بدء الخلق؟ فإن الله خلق أنفسهم بعد أن لم يكونوا شيئا

صفحة رقم 215

مذكورا، وزودهم بالقدرة الجسدية وبطاقات المعرفة من السمع والبصر والفؤاد، فإن الذي بدأ هذا قادر على إعادته، فإنه سهل عليه، يسير لديه، بل هو أهون عليه، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧].
وبعد إثبات المعاد بالدليل المشاهد في الأنفس، لفت الله تعالى النظر إلى آياته في الآفاق، فقال:
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قل يا محمد: سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله خلق السموات وما فيها من الكواكب النيّرة الثوابت والسيارات، والأرضين وما فيها من جبال ومهاد ووديان وبراري وقفار، وأشجار وأثمار، وأنهار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار. وذلك كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت ٤١/ ٥٣] وقوله سبحانه:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور ٥٢/ ٣٥- ٣٦].
هذا هو المتفرد بالخلق، وذلك دليل على وجوده، ومن قدر على الخلق قدر على الإعادة وإنشاء النشأة الآخرة يوم القيامة، فإن الله قدير على كل شيء، ومنه البدء والإعادة. وقد عبر أولا بلفظ المستقبل كَيْفَ يُبْدِئُ للدلالة على القدرة المستمرة، ثم عبّر بلفظ الماضي كَيْفَ بَدَأَ للعلم بما بدأ.
ويلاحظ أنه تعالى قال أولا أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ بصيغة الاستفهام، ثم قال: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بصيغة الأمر لأن الآية الأولى إشارة إلى العلم الحدسي: وهو الحاصل من غير طلب، والآية الثانية إشارة إلى

صفحة رقم 216

العلم الفكري الحاصل بالتفكير والطلب، أي سيّروا فكركم في الأرض، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم، لتعلموا بدء الخلق.
ثم ذكر الله تعالى ما يكون بعد الإعادة فقال:
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي إن الله هو الحاكم المتصرف يعذب من يشاء منكم من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، فله الخلق والأمر، وإليه تردون يوم القيامة بعد الموت مهما طال الأمد، فيحاسب الخلائق على ما قدموا، وحسابه حق وعدل لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما
جاء في الحديث الذي رواه أهل السّنن: «إن الله لو عذّب أهل سماواته، وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم».
وتقديم التعذيب في البيان على الرحمة، مع أن الرحمة سابقة كما
في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: «سبقت رحمتي غضبي»
لأنه ذكر الكفار أولا، ولمناسبته التهديد السابق بقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا... وإعادة وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ بعد قوله:
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للدلالة على أن التعذيب والرحمة وإن تأخرا، فلا بدّ من حصولهما، فإن إليه الإياب وعليه الحساب، وعنده يدخر الثواب والعقاب.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي وما أنتم أيها البشر بجاعلين الله عاجزا عن إدراككم في أرضه وسمائه، فلا يعجزه أحد من أهل السموات والأرض، ولا يقدر على الهرب من قضائه، بل هو القاهر فوق عباده، وليس لكم من غير الله ولي يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم، ولا معين ناصر ينصركم ويمنعكم من عذابه إن عذبكم.
وبعد الإفاضة في بيان هذه الأدلة على المعاد، والقدرة الإلهية الفائقة التصور، والتوحيد، هدد كل مخالف وتوعد كل كافر، فقال:

صفحة رقم 217

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي والذين جحدوا بآيات الله أي بدلائل وحدانيته وما أنزله على رسله من البراهين المرشدة إلى ذلك، وكفروا بالمعاد ولقاء الله في الآخرة، أولئك لا نصيب لهم من رحمة الله، بسبب كفرهم، ولهم عذاب مؤلم موجع شديد في الدنيا والآخرة، كما قال: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف ١٢/ ٨٧].
وتكرار أُولئِكَ في الآية للدلالة على أن كل واحد من اليأس والعذاب لا يوجد إلا في الكفار، وقد أضاف اليأس إليهم بقوله: أُولئِكَ يَئِسُوا فلو طمعوا بالرحمة لأنزلها عليهم، ثم إنه تعالى أضاف الرحمة لنفسه رَحْمَتِي لبيان عمومها لهم ولزومها له، ولم يضف العذاب لنفسه لتخصيصه بالكفار.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كانت دعوة إبراهيم كدعوة جميع الأنبياء عليهم السلام إلى عبادة الله (أي إفراده بالعبادة) وتوحيده واتقاء عذابه بفعل أوامره وترك معاصيه.
وقوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره، فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ إثبات الإله، وقوله: وَاتَّقُوهُ نفي الغير.
٢- إن الوثنيين يعبدون أصناما من صنع أيديهم ويختلقون الكذب بجعل تلك الأصنام شركاء لله شفعاء عنده، مع أنها لا تملك ضرّا ولا نفعا، ولا تقدر على جلب الرزق لأحد، إنما الرازق الذي يطلب منه الرزق هو الله وحده، فيجب على العباد أن يسألوه وحده دون غيره لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور: إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته، وإما لكونه نافعا في الحال أو في المستقبل، وإما

صفحة رقم 218

لكونه خائفا منه، فقوله: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها، وقوله: لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وقوله: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ معناه اعبدوه لكونه مرجعا يتوقع الخير منه. وقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا تهديد.
٣- الله تعالى هو بادئ الخلق، خلق الإنسان والحيوان والنبات والثمار، فتحيى ثم تفنى، ثم يعيدها، ويهلك الإنسان، ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى يوم القيامة لأن القادر على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة، وذلك هيّن يسير على الله، لأنه إذا أراد أمرا قال له: كُنْ فَيَكُونُ. وبإيراد آية أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ تكون الآيات دالة على الأصول الثلاثة:
التوحيد، والرسالة بقوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ والحشر.
٤- إن آفاق الكون سمائه وأرضه خلقها الله تعالى، وهو الذي يعيد الخلق مرة أخرى لأنه القادر على كل شيء، وهذا يفيد كون الإعادة أمرا مقدورا، وذلك كاف في إمكان الإعادة، وهو تقرير لكون الأمر يسيرا على الله تعالى.
٥- الله سبحانه هو الحاكم المتصرف يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، يعذّب من يشاء تعذيبه بعدله وحكمته وهو تعذيب أهل التكذيب، ويرحم من يشاء رحمته بفضله، وهو رحمة المؤمنين، والجميع عائدون إليه، محاسبون أمامه، ولا يعجزه أحد في السماء والأرض. وهذا كله لتخويف العاصي وتفريح المؤمن.
٦- ليس لأحد سوى الله من ولي يتولى أمره حفظا وعناية ورعاية، ولا من ناصر معين يعينه على التخلص من الشدائد.
٧- إن الذين كفروا بالقرآن، أو بما أقامه الله من أدلة وأعلام على وجوده وتوحيده وقدرته لا نصيب لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى، فهم أيسوا من

صفحة رقم 219
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية