اللغَة: ﴿فِتْنَةَ﴾ الفتنة: الابتلاء والاختبار ﴿أَثْقَالَهُمْ﴾ جمع ثقل وهو الحمل الثقيل الذي ينوء به الإِنسان، والمراد بالأثقال هنا الذنوب والأوزار ﴿لَبِثَ﴾ أقام ومكث ﴿إِفْكاً﴾ كذباً وزوراً ﴿تُقْلَبُونَ﴾ تُرجعون وتُردون.
سَبَبُ النزول: عن سعد بن أبي وقاص قال: «كنت رجلاً باراً بأمي فلما أسلمتُ، قالت: ما هذا الدين الذي أحدثت يا سعد؟ لتدَعن دينك هذا أو لا آكلُ ولا أشربُ حتى أموت فتعيَّر بي فيقال: يا قاتل أمه، قلتُ: لا تفعلي يا أماه، فإِني لا أدع ديني هذا لشيءٍ أبداً، قال: فمكثتْ يوماً وليلةً لا تأكل، فأصبحت قد جُهدت، ثم مكثت يوماً آخر وليلةً لا تأكل، فلما رأيتُ ذلك قلت: تعلمين واللهِ يا أُمَّاه لو كانت لكِ مائةُ نفسٍ فخرجت نفساً نفْساً ما تركتُ ديني هذا لشيءٍ أبداً، فإِن شئت فكلي، وإِن شئتِ فَدعي، فلم رأتْ ذلك أكلت فأنزل الله هذه الآية ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿الم﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ ؟ الهمزة للاستفهام الإِنكاري أي أظنَّ الناسُ أن يُتركوا من غير افتتنان لمجرد قولهم باللسان آمنا؟ لا ليس كما ظنوا بل لا بدَّ من امتحانهم ليتميز الصادق من المنافق قال ابن جزي: نزلت في قومٍ من المؤمنين كانوا بمكة مستضعفين، منهم» عمار بن ياسر «وغيره، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، فضاقت صدورهم بذلك فآنسهم الله بهذه الآية ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار، لوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى، والثبات على الإِيمان، وأعلمهم أن تلك سيرته في عباده يسلّط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك، ويظهر الصادق في إِيمانه من الكاذب ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي ولقد اختبرنا وامتحنا من سبقهم بأنواع التكاليف والمصائب والمحن قال البيضاوي: والمعنى أن ذلك سنة قديمة، جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين﴾ أي فليميزنَ الله بين الصادقين في دعوى الإِيمان، وبين الكاذبين فيه، وعبَّر عن الصادقين بلفظ الفعل ﴿الذين صَدَقُواْ﴾ وعن الكاذبين باسم الفاعل ﴿الكاذبين﴾ للإِشارة إلى أن الكاذبين وصفهم مستمر وأن الكذب راسخ فيهم بخلاف
الصادقين فإِن الفعل يفيد التجدد، قال الإِمام الفخر: إِن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر ورسوخه فيه، والفعل الماضي لايدل عليه كما يقال: فلانٌ شرب الخمر، وفلانٌ شاربُ الخمر، فإِنه لايفهم من صيغة الفعل الثبوتُ والرسوخ ﴿أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا﴾ أي أيظن المجرمون الذين يرتكبون المعاصي والموبقات أنهم يفوتون من عقابنا ويعجزوننا؟ ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي بئس ما يظنون قال الصاوي: والآية انتقال من توبيخ إلى توبيخ أشد، فالأول توبيخ للناس على ظنهم أنهم يفوتون عذاب الله ويفرون منه مع دوامهم على كفرهم ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ﴾ لما بيَّن تعالى أن العبد لا يترك في الدنيا سُدى، بيَّن هنا أن من اعترف بالآخرة وعمل لها لا يضيع عمله، ولا يخيب أمله والمعنى من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله فيجازيه، فإِن لقاء الله قريب الإِتيان، وكلُّ ما هو آتٍ قريب، والآية تسلية للمؤمنين ووعدٌ لهم بالخير في دار النعيم ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي هو تعالى السميع لأقوال العباد، العليم بأحوالهم الظاهرة والباطنة ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ أي ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات، والكف عن الشهوات، فمنفعة جهاده إِنما هي لنفسه ﴿إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ أي مستغنٍ عن العباد، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح ﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي لنمحونَّ عنهم سيئاتهم التي سلفت منهم بسبب إِيمانهم وعملهم الصالح ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ونجزيهم بأحسن أعمالهم لاصالحة وهو الطاعات ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ أي أمرناه أمراً مؤكداً بالإِحسان إِلى والديه غاية الإِحسان، لأنهما سبب وجوده ولهما عليه غاية الفضل والإِحسان، الوالد بالإِنفاق والوالدة بالإِشفاق قال الصواي: وإِنما أمر الله الأولاد ببر الوالدين دون العكس، لأن الأولاد جُبلوا على القسوة وعدم طاعة الوالدين، فكلفهم الله بما يخالف طبعهم، والآباء مجبولون على الرحمة والشفقة بالأولاد فوكلهم لما جُبلوا عليه ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ﴾ أي وإِن بذلا كلَّ ما في وسعهما، وحرصا كلَّ الحرص على أن تكفر بالله وتشرك به شيئاً لا يصح أن يكون إِلهاً ولا يستقيم، فلا تطعهما في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي إِليَّ مرجع الخلائق جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فأجازي كلاً بما عمل، وفيه وعدٌ حسن لمن برَّ والديه وابتع الهدى، ووعيدٌ لمن عقَّ والديه واتبع سبيل الرَّدى ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين﴾ أي لندخلنَّهم في زمرة الصالحين في الجنة قال القرطبي: كرَّر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحريك النفوس إلى نيل مراتبهم، وفي ﴿الصالحين﴾ مبالغة أي الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته، ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلَّص ذكر حال المنافقين المذبذبين فقال ﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ أي ومن الناس
صفحة رقم 416
فريقٌ يقولون بألسنتهم آمنا بالله، فإِذا أُوذي أحدهم بسبب إِيمانه ارتد عن الدين وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإِيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإِنسان عن الكفر قال المفسرون: التشبيه ﴿كَعَذَابِ الله﴾ من حيث إِن عذاب الله مانع للمؤمنين من الكفر، فكذلك المنافقون جعلوا أذاهم مانعاً لهم من الإِيمان، وكان مقتضى إِيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة، وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين قال الإِمام الفخر: أقسام المكلفين ثلاثة: مؤمنٌ ظاهر بحسن اعتقاده، وكافرٌ مجاهر بكفره وعناده، ومذبذبٌ بينهما يظهر الإِيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، فلما ذكر تعالى القسمين بقوله ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين﴾ ذكر القسم الثالث هنا ﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله﴾ واللطيفة في الآية أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر، وخسَّة المنافق الكافر، فقال هناك: أُوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم ويكون قلبه مطمئناً بالإِيمان، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية ﴿وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ أي ولئن جاء نصر قريب للمؤمنين، وفتح ومغانم قال أولئك المذبذبون: إنا كنا معكم ننصركم على أعدائكم، فقاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم قال تعالى رداً عليهم ﴿أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين﴾ ؟ استفهام تقرير أي أوليس الله هو العالم بما انطوت عليه الضمائر من خير وشر، ولما في قلوب الناس من إِيمان ونفاق؟ بلى إِنه بكل شيء عليم، ثم أكد تعالى ذلك بقوله ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين﴾ أي وليُظهرنَّ الله لعباده حال المؤمنين وحال المنافقين حتى يتميزوا فيفتضح المنافق، ويظهر شرف المؤمن الصادق قال المفسرون: والمراد ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الله﴾ إِظهار علمه للناس حتى يصبح معلوماً لديهم، وإِلا فالله عالم بما كان، وما يكون، وما هو كائن لا تخفى عليه خافية، فهو إِذاً علمٌ إِظهار وإِبداء، لا علمُ غيبٍ وخفاء بالنسبة لله تعالى، وقد فسَّر ابن عباس العلم بمعنى الرؤية ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ أي قال الكفار للمؤمنين اكفروا كما كفرنا، واتَّبعوا ديننا ونحن نحمل عنكم الإِثم والعقاب، إِن كان هناك عقاب قال ابن كثير: كما يقول القائل: افعلْ هذا وخطيئتك في عنقي، فإِن قيل ﴿وَلْنَحْمِلْ﴾ صيغة أمر، فكيف يصح أمر النفس من الشخص؟ فنقول: الصيغةُ أمرٌ والمعنى شرطٌ وجزاء أي إِن اتبعتمونا حملنا خطاياكم ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ أي وما هم حاملين شيئاً من خطاياهم، لأنه لا يحمل أحدٌ وزر أحد ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي وإِنهم لكاذبون في ذلك، ثم قال تعالى ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ أي وليحملُنَّ أوزارهم وأوزار من أضلوهم دون أن ينقص من أزوار أولئك شيء كما في الحديث
«ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من اتّبعه من غير أن يَنْقص من آثامهم» ﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة﴾ أي وليسألنَّ سؤال توبيخ وتقريع ﴿عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي
عما كانوا يختلقونه من الكذب على الله عَزَّ وَجَلَّ، ثم ذكر تعالى لرسوله صلى الله عيه وسلم قصة نوح تسليةً له عما يلقاه من أذى المشركين فقال ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً﴾ أي ولقد بعثنا نوحاً إلى قومه فمكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة سنة يدعوهم إلى توحيد الله جلَّ وعلا، وكانوا عبدة أصنام فكذبوه ﴿فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي فأهلكهم الله بالطوفان وهم مصرّون على الكفر والضلال قال أبو السعود: والطوفان: كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة، من السيل والريح والظلام، وقد غلب على طوفان الماء قال الرازي: وفي قوله ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ إِشارة إلى لطيفة، وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم، وإِنما يعذب على الإِصرار على الظلم ولهذا قال ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ يعني أهلكهم وهم على ظلمهم ﴿فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة﴾ أي فأنجينا نوحاً من الغرق ومن ركب معه في السفينة من أهله وأولاده وأتباعه المؤمنين ﴿وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي وجعلنا تلك الحادثة الهائلة عظة وعبرة للناس بعدهم يتعظون بها ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه﴾ قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله «إِبراهيم» إِمام الحنفاء، أنه دعا قومه إِلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإِخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده، وتوحيده في الشكر فإِنه المشكور على النعم لا مُسدي لها غيره ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي عبادة الله وتقواه خير لكم من عبادة الله الأوثان إِن كنتم تعلمون الخير من الشر وتفرقون بينهما ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً﴾ أي أنتم لا تعبدون شيئاً ينفع أو يضر، وإِنما تعبدون أصناماً من حجارة صنعتموها بأيديكم ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾ أي وتصنعون كذباً وباطلاً قال ابن عباس: تنحتون وتصورون إِفكاً ﴿إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً﴾ أي إِن هؤلاء الذين تعبدونهم لا يقدرون على أن يرزقوكم ﴿فابتغوا عِندَ الله الرزق﴾ أي فاطلبوا الرزق من الله وحده، فإِنه القادر على ذلك ﴿واعبدوه واشكروا لَهُ﴾ أي وخصوه وحده بالعبادة واخشعوا واخضعوا له، واشكروه على نعمة التي أنعم بها عليكم ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي إِليه لا إِلى غيره مرجعكم يوم القيامة فيجازي كل عاملٍ بعمله ﴿وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد أي وإِن تكذبوني فلن تضروني بتكذيبكم وإِنما تضرون بأنفسكم فقد سبق قبلكم أمم كذبوا رسلهم فحلَّ بهم عذاب الله، وسيحل بكم ما حلَّ بهم ﴿وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين﴾ أي وليس على الرسول إِلا تبليغ أوامر الله، وليس عليه هداية الناس قال الطبري: ومعنى ﴿البلاغ المبين﴾ أي الذي يبينُ لمن
صفحة رقم 418
سمعه ما يُراد به، ويفهم منه ما يعني به ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ الاستفهام لتلوبيخ لمنكري الحشر أي أولم ير المكذبون بالدلائل الساطعة كيف خلق تعالى الخلق ابتداءً من العدم، فيستدلون بالخلقة الأولى على الإِعادة في الحشر؟ قال قتادة: المعنى أولم يروا بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت؟ ﴿إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي سهل عليه تعالى فكيف ينكرون البعث والنشور؟ فإِن من قدر على البدء قدر على الإِعادة، قال القرطبي: ومعنى الآية على ما قاله البعض: أولم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبداً، وكذلك يبدأ خلق الإِنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً، وكذلك سائر الحيوان، فإِذا رأيتم قدرته على الإِبداء والإِيجاد، فهو القادر على الإِعادة لأنه إِذا أراد أمراً قال له كن فيكون ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق﴾ أي قل لهؤلاء المنكرين للبعث سيروا في أرجاء الأرض فانظروا كيف أن الله العظيم القدير خلق الخلق علىكثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وانظروا إِلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم الله، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله عَزَّ وَجَلَّ! ﴿ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة﴾ أي ثم هو تعالى ينشئهم عند البعث نشأةً أخرى ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لا يعجزه تعالى شيء ومنه البدء والإِعادة ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ﴾ أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله الخلق والأمر، لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ أي وإِليه تُرجعون يوم القيامة ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ أي لا تفوتون من عذاب الله، وليس لكم مهربٌ في الأرض ولا في السماء قال القرطبي: والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله كقوله
﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: ٧٨] ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي ليس لكم غير الله وليٌّ يحميكم من بلائه، ولا نصير ينصركم من عذابه ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ﴾ أي كفروا بالقرآن والبعث ﴿أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾ أي أولئك المنكرون الججاحدون قنطوا من رحمتي قال ابن جرير: وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب ﴿وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي لهم عذاب موجع مؤلم ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ أي فما كان ردُّ قومه عليه حين دعاهم إلأى الله ونهاهم عن الأصنام إِلا أن قال كبراؤهم المجرمون: اقتلوه لتستريحوا منه أو حرّقوه بالنار ﴿فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار﴾ أي فألقوه في النار فجعلها برداً وسلاماً عليه ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي إِنَّ في إِنجائنا لإِبراهيم من النار لدلائل وبراهين ساطعة على قدرة الله لقوم يصدقون بوجود الله وكمال قدرته وجلاله ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً﴾ أي قال إبراهيم لقومه توبيخاً لهم وتقريعاً: إِنما عبدتم هذه الأوثان والأصنام وجعلتموها آلهة مع الله ﴿مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا﴾ أي من أجل أن تدوم المحبة والألفة بينكم في هذه الحياة باجتماعكم على عبادتها ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ أي ثم في الآخرة ينقلب الحال فتصبح هذه الصداقة والمودة عداوةً وبغضاء
حيث يقع التناكر ويتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة، لأن صداقتهم في الدنيا لم تكن من أجل الله ﴿وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ أي ومصيركم جميعاً جهنم وليس لكم ناصر أو معين يخلصكم منها ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ أي فآمن معه لوط وصدَّقه وهو ابن أخيه وأول من آمن به لما رأى من الآيات الباهرة ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي﴾ أي وقال الخليل إِبراهيم، إِني تاركٌ وطني ومهاجر من بلدي رغبة في رضى الله قال المفسرون: هاجر من سواد العراق إلأى فلسطين والشام ابتغاء إِظهار الدين والتمكن من نشره ﴿إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم﴾ أي هو العزيز الذي لا يذل من اعتمد عليه، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ أي وهبنا لإِبراهيم - لما فارق قومه في الله - ولداً صالحاً هو إِسحق وولد ولدٍ وهو يعقوب بن اسحاق ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ أي خصصناه بهذا الفضل العظيم حيث جعلنا كل الأنبياء بعد إِبراهيم من ذريته، وجعلنا اللكتب السماوية نازلةً على الأنبياء من بنيه قال ابن كثير: وهذه خصلة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إِياه خليلاً، وجعله إِماماً للناس، أن جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فل يوجد نبيٌ بعد إِبراهيم إِلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إِسرائيل من سلالة ولده «يعقوب» ولم يوجد نبي من سلالة «إسماعيل» سوى النبي العربي عليه أفضل الصلاة والتسليم ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا﴾ أي وتركنا له الثناء الحسن في جميع الأديان ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ أي وهو في الآخرة في عداد الكاملين في الصلاح، وهذا ثناءٌ عظيم على أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع فيما يلي:
١ - الاستفهام للتقريع والتوبيخ والإِنكار ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا﴾.
٢ - الطباق بين ﴿صَدَقُواْ.
. والكاذبين﴾ وبين ﴿آمَنُواْ.. والمنافقين﴾ وبين ﴿يُعَذِّبُ.. وَيَرْحَمُ﴾ وبين ﴿يُبْدِئُ.. يُعِيدُهُ﴾.
٣ - التأكيد بإِنَّ واللام ﴿فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ﴾ لأن المخاطب منكر.
٤ - صيغة المبالغة ﴿السميع العليم﴾.
٥ - الجناس غير التام ﴿يَسِيرٌ.. وسِيرُواْ﴾.
٦ - التشبيه المرسل المجمل ﴿فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ حذف منه وجه الشبه فهو مجمل.
٧ - التفنن في التعبير ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً﴾ لم يقل إِلا خمسين سنة تفنناً لأن التكرار في الكلام الواحد مخالف للبلاغة إِلا إِذا كان لغرضٍ من تفخيم أو تهويل مثل ﴿القارعة مَا القارعة﴾.
٨ - أسلوب الإِطناب ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً.. إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ لغرض التشنيع عليهم في عبادة الأوثان.
٩ - أسلوب الإِيجاز ﴿اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ أي حرقوه في النار ثم قال ﴿فَأَنْجَاهُ الله﴾ أي ففعلوا فأنجاه الله من النار.
١٠ - الاستعارة اللطيفة ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾ شبّه الذنوب بالأثقال لأنها تثقل كاهل الإنسان.