
طلبا لما عند الله من الثواب «وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ» وغنيمة للمؤمنين من أعدائهم «لَيَقُولُنَّ» لهم أولئك المنافقون «إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» على عدوكم وكنا مسلمين مثلكم، وإنما أكرهنا على ما وقع منا، فأكذبهم الله بقوله «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ» ١٠ من الإيمان الصادق والنفاق المحض وغيره،
بلى هو أعلم منهم بأنفسهم، وهذا استفهام تقريري بمعنى القسم، أي بلى والله هو عالم بذلك، ولهذا أردفه بالقسم. فقال «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» وثبتوا على إيمانهم حالة البلاء «وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» ١١ الذين تخلوا عنه عند الشدة، أي والله إنه عالم بالفريقين حق العلم لأن اللام في الفعلين موطئة للقسم. نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا مؤمنين بألسنتهم فإذا أصابهم أذى من الكفار واتقوهم على ما يريدونه، فنضحهم الله تعالى، وهذه آخر الآيات المدنيات.
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بمحمد «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» أي إذا كان الصارف لكم عنا خوفكم عقاب الله الذي يهددكم به محمد فارجعوا عن دينه إلى دينكم ونحن نتحمل عنكم ما يهددكم به، فأكذبهم الله بقوله «وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ» هذا نفي مؤكد بالباء الواقعة في خبر ما التي هي بمعنى ليس جيء بها لتاكيد نفي الاستمرار وبمن الداخلة على شيء لتأكيد الاستغراق ثم قرر ذلك بقوله «إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ١٢ بأنّ المقيدة للتحقيق والتأكيد واللام الموكدة لها، ونظير هذه الآية في المعنى الآية ٢٥ من سورة النحل المارة، كما أن نظير الآيتين ١٠/ ١١ المارتين الآية ١٦٦ فما بعدها من سورة آل عمران في ج ٣، قال تعالى «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ» أوزارهم الباهظة «وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» أيضا، لأن هؤلاء المضلين عليهم عقابان، عقابا لافترافهم الكفر، وعقابا لحمل غيرهم عليه، راجع الآية ٢٥ من سورة النحل المارة «وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» سؤال توبيخ وتبكيت «عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» ١٣ من الأكاذيب والأباطيل ويغرون غيرهم بها كقولهم هذا، روى مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: من سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن

ينقص من أوزارهم شيء. والسنة السيئة هي المبتدعة التي لم يرد عن النهي عنها حديث صحيح، كما أن السنة الحسنة الواردة في الحديث الآخر الذي ذكرناه في آية النحل المذكورة هي غير التي منها حضرة الرسول، وتنطبق على هذين الحديثين البدع، فما كان منها سيئا دخل في السنة السيئة، وما كان منها حسنا دخل في السنة الحسنة.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ» يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان «أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً» لم يقل تسعمئة وخمسين عاما، لأن الاستثناء يدل على التحقيق، وغيره يدل على التقريب، ولأن التعبير بها أقل كلمات من غيرها، ولأن عقد الألف يدل على التكثير وهو أعظم للكلام. قال ابن عباس بعث على رأس الأربعين، ودعا قومه ألفا إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان ستين، فعمره ألف وخمسون سنة. وقال وهب عاش ألفا وأربعمائة سنة. وجاء في التوراة آخر الإصحاح التاسع أنه عاش مع قومه ستمئة سنة، وبعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، والله أعلم. وهذه الآية كتسلية لحضرة الرسول يعلمه فيها أن من الأنبياء قبلك صبروا على البلاء كثيرا وإنك أولى بالصبر لأنك من أولي العزم، وإن أمتك مهما قابلتك به، فإنها أحسن من غيرها من حيث النتيجة، لأنا جعلناك خير نبي أرسل، فأرسلناك إلى خير أمة، فاصبر عليهم فإنك مهما جاملتهم وتحملت منهم لا يكون مثل صبر نوح على قومه في طول مدته، وإنا بعد صبره هذا أعلمناه بأنهم لم يؤمنوا، وألقمناه الدعاء عليهم، فدعا «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ» إجابة لدعوته التي صادقت الوقت المقدر لعذابهم «وَهُمْ ظالِمُونَ» ١٤ لأنفسهم لعدم إجابتهم دعوة نبيهم للإيمان وإصرارهم على الكفر، أما نوح «فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ» الذين آمنوا معه من الغرق «وَجَعَلْناها» تلك الفعلة التي فعلناها بهم أو السفينة التي أنجينا بها المؤمنين «آيَةً لِلْعالَمِينَ» ١٥ أجمع إذ يتناقلون أخبارها جيلا بعد جيل منذ زمنها إلى يوم القيامة. راجع تفصيل القصة في الآية ٤٤ من نورة هود المارة. وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ» وحده وذروا الكواكب والأصنام التي هي من مخلوقاته وصنع أيديكم «ذلِكُمْ» الذي أرشدكم إليه وأنصحكم به «خَيْرٌ لَكُمْ» من الإشراك