واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكنا وابتغاء فضل الله بالليل ممكنا إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى به فلهذا خصه به.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا هَجَّنَ طَرِيقَةَ الْمُشْرِكِينَ، أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ التوحيد ودلائله، ثانيا عاد إلى تهجن طَرِيقَتِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى وَشَرَحَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فقال: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَالْمَعْنَى أَيْنَ الَّذِينَ ادَّعَيْتُمْ إِلَهِيَّتَهُمْ لِتَخَلُّصِكُمْ، أَوْ أَيْنَ قَوْلُكُمْ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَائِدًا فِي غَمِّهِمْ إِذَا خُوطِبُوا بِهَذَا الْقَوْلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَالْمُرَادُ مَيَّزْنَا وَاحِدًا لِيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوا الْقَوْمَ الدَّلَائِلَ وَبَلَغُوا فِي إِيضَاحِهَا كُلَّ غَايَةٍ لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَائِدًا فِي غَمِّهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هُمُ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَمَّ كَلَّ أُمَّةٍ وَكُلَّ جَمَاعَةٍ بِأَنْ يَنْزِعَ مِنْهُمُ الشَّهِيدَ فَيَدْخُلَ فِيهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي لَمْ يُوجَدْ فِيهَا النَّبِيُّ وَهِيَ أَزْمِنَةُ الْفَتَرَاتِ وَالْأَزْمِنَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بَعْدَ/ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَلِرُسُلِهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ غَابَ عَنْهُمْ غَيْبَةَ الشَّيْءِ الضَّائِعِ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل والكذب.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
اعْلَمْ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ قَدْ آمَنَ بِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا حَمْلُهُ عَلَى الْقَرَابَةِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ كَانَ قَارُونُ بْنَ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي، وَمُوسَى بْنَ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إِنَّهُ كَانَ عَمَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ وَقَارُونَ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَتِهِ، ثُمَّ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صُورَتِهِ وَكَانَ أَقْرَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلتَّوْرَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ نَافَقَ كَمَا نافق السامري.
أما قوله: فَبَغى عَلَيْهِمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَغَى بِسَبَبِ مَالِهِ، وَبَغْيُهُ أَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِالْفُقَرَاءِ وَلَمْ يَرْعَ لَهُمْ
حَقَّ الْإِيمَانِ وَلَا عَظَّمَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، قِيلَ مَلَّكَهُ فِرْعَوْنُ عَلَى/ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَظَلَمَهُمْ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ: بَغَى عَلَيْهِمْ، أَيْ طَلَبَ الْفَضْلَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِهِ الرَّابِعُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: طَغَى عَلَيْهِمْ وَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُوَفِّقْهُمْ فِي أَمْرٍ الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ وَسَخِطَ عَلَيْهِمْ السَّادِسُ:
قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: بَغْيُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِمْ فِي الثِّيَابِ شِبْرًا، وَهَذَا يَعُودُ إِلَى التَّكَبُّرِ السَّابِعُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَغْيُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ حَسَدَ هَارُونَ عَلَى الْحُبُورَةِ،
يُرْوَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَطَعَ الْبَحْرَ وَأَغْرَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِرْعَوْنَ جَعَلَ الحبورة لهرون، فَحَصَلَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ وَالْحُبُورَةُ وَكَانَ صَاحِبَ الْقُرْبَانِ وَالْمَذْبَحِ، وَكَانَ لِمُوسَى الرِّسَالَةُ، فَوَجَدَ قَارُونُ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ يَا مُوسَى لَكَ الرسالة، ولهرون الْحُبُورَةُ، وَلَسْتُ فِي شَيْءٍ وَلَا أَصْبِرُ أَنَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاللَّهِ ما صنعت ذلك لهرون وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ لَهُ، فَقَالَ وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُكَ أَبَدًا حَتَّى تَأْتِيَنِي بِآيَةٍ أَعْرِفُ بِهَا أن الله جعل ذلك لهرون، قَالَ فَأَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رُؤَسَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَجِيءَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِعَصَاهُ، فَجَاءُوا بِهَا، فَأَلْقَاهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قُبَّةٍ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُمْ بَيَانَ ذَلِكَ، فَبَاتُوا يَحْرُسُونَ عِصِيَّهُمْ فَأَصْبَحَتْ عَصَا هَارُونَ تَهْتَزُّ لَهَا وَرَقٌ أَخْضَرُ وَكَانَتْ مِنْ شَجَرِ اللَّوْزِ، فَقَالَ مُوسَى: يَا قَارُونُ أَمَا تَرَى مَا صَنَعَ الله لهرون! فَقَالَ وَاللَّهِ مَا هَذَا بِأَعْجَبَ مِمَّا تَصْنَعُ مِنَ السِّحْرِ، فَاعْتَزَلَ قَارُونُ وَمَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَوَلِيَ هَارُونُ الْحُبُورَةَ وَالْمَذْبَحَ وَالْقُرْبَانَ، فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَأْتُونَ بِهَدَايَاهُمْ إِلَى هَارُونَ فَيَضَعُهَا فِي الْمَذْبَحِ وَتَنْزِلُ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهَا، وَاعْتَزَلَ قَارُونُ بِأَتْبَاعِهِ وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَالتَّبَعِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا كَانَ يَأْتِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يُجَالِسُهُ،
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ قَارُونُ مِنَ السَّبْعِينَ الْمُخْتَارَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى».
أَمَّا قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ففيه أبحاث:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي الْحَرَامَ فَكَيْفَ أَضَافَ اللَّهُ مَالَ قَارُونَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ:
وَآتَيْناهُ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا، وَيَجُوزُ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُلُوكِ جَمَعُوا وَكَنَزُوا فَظَفِرَ قَارُونُ بِذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا الظَّفَرُ طَرِيقَ التَّمَلُّكِ، أَوْ وَصَلَ إِلَيْهِ بِالْإِرْثِ مِنْ جِهَاتٍ، ثُمَّ بِالتَّكَسُّبِ مِنْ جِهَةِ الْمُضَارَبَاتِ وَغَيْرِهَا وَكَانَ الكل محتملا.
البحث الثاني: المفتاح جَمْعُ مِفْتَحٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ مَا يُفْتَحُ بِهِ، وَقِيلَ هِيَ الْخَزَائِنُ وَقِيَاسُ وَاحِدِهَا مَفْتَحٌ بفتح الميم، ويقال ناء به المحل إِذَا أَثْقَلَهُ حَتَّى أَمَالَهُ، وَالْعُصْبَةُ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ وَالْعِصَابَةُ مِثْلُهَا، فَالْعَشَرَةُ عُصْبَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يُوسُفَ: ٨] وَكَانُوا عَشْرَةً لِأَنَّ يُوسُفَ وَأَخَاهُ لَمْ يَكُونَا مَعَهُمْ.
إِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْأَلْفَاظِ فَنَقُولُ: هاهنا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَفَاتِحِ الْمَفَاتِيحُ وَهِيَ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا الْبَابُ، قَالُوا كَانَتْ مَفَاتِيحُهُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ وَكُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ إِصْبَعٍ، وَكَانَ لِكُلِّ خِزَانَةٍ مِفْتَاحٌ، وَكَانَ إِذَا رَكِبَ قَارُونُ حُمِلَتِ الْمَفَاتِيحُ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ/ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَالَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لَا يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَوْ أَنَّا قَدَّرْنَا بَلْدَةً مَمْلُوءَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ لَكَفَاهَا أَعْدَادٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْمَفَاتِيحِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى تَكْثِيرِ هَذِهِ الْمَفَاتِيحِ الثَّانِي: أَنَّ الْكُنُوزَ هِيَ الْأَمْوَالُ الْمُدَّخَرَةُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَفَاتِيحُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَالَ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْعُرُوضِ، لَا مِنْ جِنْسِ النَّقْدِ جَازَ أَنْ يَبْلُغَ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى
هَذَا الْحَدِّ، وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي يُقَالُ إِنَّ تِلْكَ الْمَفَاتِيحَ بَلَغَتْ سِتِّينَ حِمْلًا، لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ فَلَا تُقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَتَفْسِيرُ الْقُرْآنِ أَنَّ تِلْكَ الْمَفَاتِيحَ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعَيَّنًا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ يَثْقُلُ عَلَى الْعُصْبَةِ ضَبْطُهَا وَمَعْرِفَتُهَا بِسَبَبِ كَثْرَتِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَزُولُ الِاسْتِبْعَادُ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرَ الْكَنْزِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ مَا قَالُوا فَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَالِ الْمَجْمُوعِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَلَيْهَا أَغْلَاقٌ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنْ تُحْمَلَ الْمَفَاتِحُ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ وَهَذَا أَبْيَنُ وَعَنِ الشُّبْهَةِ أَبْعَدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ خَزَائِنُهُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَقْوِيَاءَ، وَكَانَتْ خَزَائِنُهُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَشَرَةَ آلَافٍ الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَفَاتِحِ الْعِلْمُ وَالْإِحَاطَةُ كَقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَالْمُرَادُ آتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ حِفْظَهَا وَالِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَيَثْقُلُ عَلَى الْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ وَالْهِدَايَةِ، أَيْ هَذِهِ الْكُنُوزُ لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا تُتْعِبُ حَفَظَتَهَا وَالْقَائِمِينَ عَلَيْهَا أَنْ يَحْفَظُوهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْمِهِ مَنْ وَعَظَهُ بِأُمُورٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَالْمُرَادُ لَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْبَطَرِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدُّنْيَا مَا يُلْهِيهِ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَصْلًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا إِلَّا مَنْ رَضِيَ بِهَا وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُفَارِقُ الدُّنْيَا عَنْ قَرِيبٍ لَمْ يَفْرَحْ بِهَا وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْمُتَنَبِّي:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ | تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالًا |
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ، وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ وَلَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةٌ وَالنَّارُ»
وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ لَمَّا أَمَرَهُ/ بِالْإِحْسَانِ بِالْمَالِ أَمَرَهُ بِالْإِحْسَانِ مُطْلَقًا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِعَانَةُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ اللِّقَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا قَالَ: كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ تَنْبِيهًا عَلَى قَوْلِهِ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: ٧] وَخَامِسُهَا:
قَوْلُهُ: وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مُؤْمِنُو قَوْمِهِ، وَكَيْفَ كَانَ فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذَا الْوَعْظِ مَا لَوْ قَبِلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَزِيدٌ، لَكِنَّهُ أَبَى أَنْ يَقْبَلَ بَلْ زَادَ عَلَيْهِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ فَقَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ قَارُونُ أَقْرَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلتَّوْرَاةِ فَقَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ لِفَضْلِ عِلْمِي وَاسْتِحْقَاقِي لِذَلِكَ وَثَانِيهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ مِنَ السَّمَاءِ فَعَلَّمَ قَارُونَ ثُلُثَ الْعِلْمِ وَيُوشَعَ ثُلُثَهُ وَكَالِبَ ثُلُثَهُ فَخَدَعَهُمَا قَارُونُ حَتَّى أَضَافَ عِلْمَهُمَا إِلَى عِلْمِهِ فَكَانَ يَأْخُذُ الرَّصَاصَ فَيَجْعَلُهُ فِضَّةً وَالنُّحَاسَ فَيَجْعَلُهُ ذَهَبًا وَثَالِثُهَا: أَرَادَ بِهِ عِلْمَهُ بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ وَالتِّجَارَاتِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّما أُوتِيتُهُ صفحة رقم 15