الحديث، وهذا مؤيد لمعنى الآية: وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلام متاركة ومفارقة، لنا ديننا ولكم دينكم، فهذا ليس من التحية في شيء.
ولا نبتغي الجاهلين، أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة، ولا نرغب في مصاحبتهم، ولا نودّ معاشرتهم، ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم.
الرد على شبهات المشركين
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٦ الى ٦١]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)
الإعراب:
رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا مفعول لأجله.
وَكَمْ أَهْلَكْنا كَمْ: منصوبة ب أَهْلَكْنا.
بَطِرَتْ مَعِيشَتَها منصوب بحذف حرف الجر، أي بطرت في معيشتها، ولا يجوز نصبه على التمييز، لأن التمييز لا يكون إلا نكرة، ومعيشتها: معرفة.
البلاغة:
إِنَّكَ لا تَهْدِي وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بينهما طباق السلب.
حَرَماً آمِناً مجاز عقلي، نسب الأمن إلى الحرم، وهو لأهله، وعلاقته المكانية.
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً... أورد الكلام بصيغة الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا.
المفردات اللغوية:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته، أي لا تقدر أن تدخله في الإسلام. يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيدخله في الإسلام، والهداية نوعان: الدلالة والإرشاد إلى الخير، والتوفيق بعد توافر أصل الهداية. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ عالم بالمستعدين للهداية. وَقالُوا أي قريش. نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ننتزع منها بسرعة، أي نخرج من البلاد. أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن من الإغارة والقتل، بحرمة البيت الذي فيه ويتناحر العرب حوله، وهم آمنون فيه. يُجْبى إِلَيْهِ يحمل إليه ويجمع فيه، جبى الماء: جمعه، والجابية: الحوض العظيم. ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ من كل مكان. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا رزقا لهم من عندنا. لا يَعْلَمُونَ أن ما نقوله حق، فهم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا. والمعنى المراد: فإذا كان هذا حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف نعرّضهم للخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد؟
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي كم من أهل قرية كانت حالهم كحالكم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. فقوله: بَطِرَتْ مَعِيشَتَها من البطر: وهو الأشر وقلة احتمال النعمة، والمراد من بطرت: بغت وتجبرت ولم ترع حق الله في زمن معيشتها. إِلَّا قَلِيلًا أي لم تسكن إلا فترات قليلة للمارة يوما أو بعضه، من شؤم معاصيهم.
وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم، إذ لم يخلفهم أحد في ديارهم وتصرفاتهم.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته. أُمِّها أصلها وعاصمتها (قصبتها) وأعظمها.
رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا لإلزام الحجة وقطع المعذرة. ظالِمُونَ بتكذيب الرسل والعتو في الكفر. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من أسباب الدنيا. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي تتمتعون وتتزينون به أيام حياتكم ثم يفنى. وَما عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه. خَيْرٌ في نفسه من ذلك، لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة. وَأَبْقى أدوم وأبدي. أَفَلا تَعْقِلُونَ تتفكرون، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقرئ يعقلون وهو أبلغ في الموعظة. وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً وعدا بالجنة، فإن حسن الوعد بحسن الموعود. فَهُوَ لاقِيهِ مدركه لا محالة، لامتناع الخلف في الوعد، ولذلك عطفه بالفاء المتضمنة معنى السببية.
كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي يزول عن قريب، ويختلط بالآلام والمتاعب.
مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب والعذاب بالنار، وقوله: ثُمَّ للتراخي في الزمان أو الرتبة. والمراد بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ المؤمن، وبقوله: كَمَنْ مَتَّعْناهُ الكافر، أي لا تساوي بينهما، وهذه الآية كالنتيجة التي قبلها، ولذلك رتب عليها بالفاء.
سبب النزول:
نزول الآية (٥٦) :
إِنَّكَ لا تَهْدِي:
أخرج مسلم وعبد بن حميد والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمه: قل: لا إله إلا الله، أشهد لك يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني نساء قريش، يقلن: إنه حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وأخرج النسائي وابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد عن أبي سعيد بن رافع قال: سألت ابن عمر عن هذه الآية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ في أبي جهل وأبي طالب؟ قال: نعم.
نزول الآية (٥٧) :
وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ: أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن أناسا من قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن نتبعك تخطفنا الناس، فنزلت.
وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن عامر بن نوفل بن عبد مناف هو الذي قال ذلك، وعبارته- كما في البيضاوي-: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب- وإنما نحن أكلة رأس، أي قليلو العدد- أن يتخطفونا من أرضنا، فنزل قوله تعالى: وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى الآية.
نزول الآية (٦١) :
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ: أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ الآية، قال: نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج من وجه آخر عنه: أنها نزلت في حمزة وأبي جهل.
المناسبة:
بعد بيان إيمان طوائف من أهل الكتاب، ذكر الله تعالى شبهة المشركين في امتناعهم عن الإيمان، ثم رد عليها بأجوبة ثلاثة، مفتتحا الكلام بتقرير أن الهداية للدين وهي هداية التوفيق هي لله تعالى لا لرسوله، وأثبت له في آية.
أخرى هي وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى ٤٢/ ٥٢] هداية الدلالة والإرشاد والبيان.
التفسير والبيان:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية من أحببت هدايته هداية توفيق، فليس ذلك إليك، إنما عليك البلاغ، والله هو الذي يستطيع هداية من يشاء هداية توفيق وشرح صدر، بأن يقذف نورا في قلبه، فيحيى به، كما قال سبحانه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
[الأنعام ٦/ ١٢٢] وله الحكمة البالغة، وربّك هو العالم بالمستعدين للهداية، فيهديهم، لأنهم مستحقون لها، وعالم أيضا بالمستعدين للغواية، فلا يهديهم، لأنهم لا يستحقونها. والمراد بالآية تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم في عدم تمكنه من هداية قومه.
ويلاحظ أنه لا دلالة في ظاهر هذه الآية على كفر أبي طالب، لكن الثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما بينت، قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف، أطيعوا محمدا وصدقوه، تفلحوا وترشدوا،
فقال صلّى الله عليه وسلم: «يا عم، تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك! قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله تعالى، قال: يا ابن أخي، قد علمت أنك صادق، ولكني أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبّة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ: عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف».
قال القرطبي: والصواب أن يقال: أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو نص البخاري ومسلم.
ونظير الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٧٢] وقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف ١٢/ ١٠٣].
والخلاصة: أن الهداية- كما ذكر الرازي:- بمعنى الإلجاء والقسر غير جائز، لأن ذلك قبيح من الله تعالى في حق المكلف، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو
الحاجة، وهما محالان، ومستلزم المحال محال، فذلك محال من الله تعالى، والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة «١».
ثم أخبر الله تعالى عن شبهة المشركين في عدم إيمانهم بالنبي صلّى الله عليه وسلم، واعتذارهم بعذر واه، فقال:
وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي قال المشركون:
نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا ما حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، ويخرجونا من ديارنا.
فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بثلاثة أجوبة:
١- تأمين الحرم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي إن هذا الاعتذار كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين، وحرم آمن معظّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنا لهم إن أسلموا واتبعوا الحق؟
ومن خصائص الحرم المكي: أنه يحمل إليه من سائر الثمار في كل البلدان، كما تحمل إليه أصناف المتاجر والأمتعة، تفضلا بالرزق من عند الله، ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون «٢» لما فيه الخير والسعادة، ولا يتفكرون ليعلموا الأحق بالعبادة، ويقلعوا عن عبادة ما سواه.
٢- التذكير بإهلاك الأمم: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي ليعلم
(٢) فطن للشيء يفطن بالضم فطنة، وفطن- بالكسر- فطنة أيضا.
هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النعم أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النعم، فكثيرا ما أهلك الله من القرى أي أهلها التي أبت الإيمان، وكفرت، وبغت وطغت وأشرت، وجحدت بأنعم الله وأرزاقه المغدقة، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها، لا يسكن فيها أحد إلا لمدة قليلة، يبيت فيها المارة يوما أو بعض يوم، وأصبح الوارث هو الله لأنها رجعت خرابا ليس فيها أحد يخلفهم فيها. ويقال للشيء الذي ترك بلا مالك: إنه ميراث الله، لأنه المالك الحقيقي للكون، والباقي بعد فناء خلقه.
ونظير الآية قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النحل ١٦/ ١١٢].
ثم أخبر تعالى عن عدله في إنزال العقاب، فقال:
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي وما كانت عادة ربك وسنته أن يهلك المدن والقرى بأهلها حتى يرسل في أصلها وعاصمتها وأكبرها رسولا يبين لهم الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وأحقيته بالعبادة، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل ولا عذر بعدم معرفة الحق، فيهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولا يهلك أهل القرى أو أحدا من خلقه إلا وهم ظالمون أنفسهم بتكذيب الرسل وجحود الآيات.
وهذا دليل على عدل الله في خلقه، فلا عقاب إلا بعد بيان، ولا إهلاك مع إيمان، وإنما العقاب والهلاك حال الظلم واجتراح المعاصي، واقتراف المنكرات والآثام التي أكبرها الشرك بالله تعالى.
وللآية نظائر كثيرة منها: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ١٥].
وفي الآية دليل على أن النبي الأمي وهو محمد صلّى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى (مكة) رسول إلى جميع القرى من عرب وعجم، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى ٤٢/ ٧] وقال سبحانه: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف ٧/ ١٥٨] وقال عز وجل: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩].
٣- التدين أو الإيمان لا يضيع منافع الدنيا: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، أَفَلا تَعْقِلُونَ أي إن الدنيا وما فيها من زينة وزخرف ومتاع فانية حقيرة بالنسبة لما أعده الله لعباده الصالحين من المنافع والنعم في الدار الآخرة، فكل ما أعطيتم أيها الناس من أموال وأولاد وزينة وزخارف، فهو مجرد متاع مؤقت وزينة زائلة، لا يجدي عند الله شيئا، وهو زائل وزهيد إذا قيس بنعم الآخرة، فنعيم الآخرة باق دائم خير في ذاته من متاع الدنيا، كما قال تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل ١٦/ ٩٦] وقال سبحانه: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران ٣/ ١٩٨] وقال عز وجل: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى ٨٧/ ١٦- ١٧]
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الثابت: «والله، ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليمّ، فلينظر ماذا يرجع إليه» !!
أفلا يعقل ويتفكر من يقدّم الدنيا على الآخرة، أفلا يتدبر من يؤثر الفاني على الباقي!! ألا فليفكر الإنسان في اختيار ما هو الخير الدائم له، ويترك الشر الذي يصيبه بالأذى.
ثم أكّد الله تعالى ذلك المعنى فقال:
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي فليقارن الإنسان ليعلم ترجيح ما عند الله وتفضيله على زينة الدنيا، وكيفية المقارنة: أفمن هو مؤمن بكتاب الله مصدق بوعد الله وثوابه على صالح الأعمال بالجنة وجزيل النعيم، كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده، فهو ممتع في الحياة الدنيا أياما قلائل، ثم يصير أمره يوم القيامة من المعذبين في نار جهنم؟! فقولهم: إنا تركنا الدين خشية فوات منافع الدنيا خطأ وقول غير سديد لأن الدين لا يفوت تلك المنافع، فهي حقيرة في ميزان الله، وإنما يكون إيثار الدنيا مفوتا لمنافع الآخرة، وسببا أيضا للعقاب الدائم في الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يلي:
١- يخص الله تعالى بعض خلقه بخلق الهداية ومعرفة طريق الجنة، ويمنع البعض منها، ولا يسأل عما يفعل. وليس معنى الهداية والضلال القسر والإلجاء عليهما فذلك غير جائز شرعا وعقلا، وهو قبيح من الله تعالى في حق الإنسان المكلف بالتكاليف الشرعية.
ولقد بان من سبب النزول الثابت في الصحيحين أن أبا طالب مات على غير الإيمان، والله أعلم.
٢- الله تعالى هو المختص بعلم الغيب، فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي.
٣- قال مشركو مكة للنبي صلّى الله عليه وسلم معتمدين على شبهة واهية وتعلل مرفوض أو عذر غير واقعي ولا منطقي: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا (مكة)
لاجتماعهم على خلافنا، ولا طاقة لنا بهم. قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي.
٤- أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بأجوبة ثلاثة:
الأول- أنه سبحانه جعل حرم مكة ذا أمن، فكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فقد أمّنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم، فما الذي يمنعهم من الإيمان بعد توافر الأمان؟! ومن مزايا الحرم المكي بعد الأمن أنه يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد، فضلا ورزقا من عند الله، ولكن أكثر المكيين لا يعقلون، أي هم غافلون عن الاستدلال، وأن من رزقهم وأمّنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم.
وخلاصة هذا الجواب: أنه تعالى لما جعل الحرم آمنا، وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى، مقبلين على عبادة الأوثان، فلا حرج في إيمانهم إذ لو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى.
فهذا رد أول على تعللهم بترك الإيمان.
الثاني- بعد أن بيّن تعالى ما خص به أهل مكة من النعم، أتبعه ببيان ما أنزله على الأمم الماضية المنعمين بنعم الدنيا بسبب تكذيب الرسل، فإذا توهموا أنه لو آمنوا لقاتلتهم العرب، فذلك وهم باطل لأن الخوف في ترك الإيمان أكثر.
فكم من قوم كفروا، ثم حلّ بهم الدمار، ولما قالوا: إنا لا نؤمن خوفا من زوال نعمة الدنيا، بيّن الله تعالى لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم، لا الإقدام على الإيمان والدليل أنه تعالى أهلك كثيرا من
الأقوام بسبب البطر وهو ألا يحفظ حق الله تعالى في الغنى، فأصبحت مساكنهم غير مسكونة بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من السكنى أو سكونا قليلا، فلم يسكنها إلا المسافرون أو المارة بالطريق يوما أو بعض يوم، وكان الله هو الوارث لها بعد هلاك أهلها.
ومن المعلوم أنه إذا لم يبق للشيء مالك معين قيل: إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه.
ثم أوضح الله تعالى سنته في الإهلاك: وهي أنه لم تكن عادة الله أو سنته أن يهلك القرى الكافرة، حتى يبعث في عاصمتها وأعظمها رسولا، كما أرسل إلى أهل مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم، ثم لم يهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لظلمهم ولإصرارهم على الكفر بعد إعذارهم وإنذارهم. وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم.
والخلاصة: أن إهلاكهم لا يكون إلا بأمرين:
استحقاقهم الإهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة، والإلزام ببعثة الرسل.
الثالث- إن قول أهل مكة: تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا خطأ عظيم لأن ما يتمتعون به مدة حياتهم زائل، وما عند الله خير وأبقى، أي أفضل وأدوم، أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني؟! أما إنه خير: فلأن المنافع في الآخرة أعظم، ولأنها خالصة عن الشوائب، أما منافع الدنيا فمشوبة بالمضار، بل المضار فيها أكثر.
وأما إنها أبقى: فلأنها دائمة غير منقطعة، ومنافع الدنيا منقطعة، وإذا قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدما، ثم إن نصيب كل واحد من منافع الآخرة إذا قورن بمنافع الدنيا كلها يعدّ كالذرة بالقياس إلى البحر.