
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا (١)، وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ الدَّنِيئَةِ وَالزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الْمُقِيمِ، كَمَا قَالَ: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النَّحْلِ: ٩٦]، وَقَالَ: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٨]، وَقَالَ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٦]، وَقَالَ: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الْأَعْلَى: ١٦، ١٧]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا كَمَا يَغْمِس أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْينظُر مَاذَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ" (٢).
[وَقَوْلُهُ] (٣) :﴿أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ (٤) أَيْ: أَفَلَا يَعْقِلُ مَنْ يُقَدِّمُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؟.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ : يَقُولُ: أَفَمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، كمَنْ هُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَهُوَ مُمَتَّعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيَّامًا قَلَائِلَ، ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: مِنَ الْمُعَذَّبِينَ.
ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي جَهْلٍ، وَكِلَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُوَ فِي الدَّرَجَاتِ وَذَاكَ فِي الدَّرَكَاتِ: ﴿وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٥٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٥٨].
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُوَبِّخُ بِهِ الْكُفَّارَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: ﴿أَيْنَ شُرَكَائي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾
(٢) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٨٥٨) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.
(٣) زيادة من ف، أ.
(٤) في ف، أ: "تعقلون".

يَعْنِي: أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّهْدِيدِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٩٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ يَعْنِي: مِنَ الشَّيَاطِينِ والمَرَدَة وَالدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ، ﴿رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾، فَشَهِدُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ فَاتَّبَعُوهُمْ، ثم تبرؤوا مِنْ عِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٨١، ٨٢]، وَقَالَ: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الْأَحْقَافِ: ٥، ٦]، وَقَالَ الْخَلِيلُ لِقَوْمِهِ: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥]، وَقَالَ اللَّهُ (١) :﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٦٦، ١٦٧]، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ [أَيْ] (٢) : لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، كَمَا كُنْتُمْ تَرْجُونَ مِنْهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ أَيْ: وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ أَيْ: فَوَدُّوا حِينَ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا﴾ [الْكَهْفِ: ٥٢، ٥٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ : النِّدَاءُ الْأَوَّلُ عَنْ سُؤَالِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا فِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّاتِ: مَاذَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ؟ وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُمْ مَعَهُمْ؟ وَهَذَا كَمَا يُسأل الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ؟ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ (٣) ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ (٤) وَرَسُولُهُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَاهَ.. هَاهَ. لَا أَدْرِي؛ وَلِهَذَا لَا جَوَابَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ، فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، ﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "من نبيكم وما دينكم".
(٤) في ف، أ: "عبده".