
بعثه رسولا، وأنزل عليه ألواح التوراة، وثانيا- قصة شعيب مع قومه أهل مدين.
ولولا الإخبار القرآني بذلك، ما علم بالخبر محمد صلّى الله عليه وسلم وقومه العرب ومنهم أهل مكة، وإنما فعل تعالى ذلك رحمة منه برسوله صلّى الله عليه وسلم وبعباده، لينذرهم بها، وينذر العرب الذين لم يشاهدوا تلك الأخبار.
الثاني- بيان الحكمة من إرسال النبي محمد صلّى الله عليه وسلم بل وكل الرسل: وهي تبليغ شريعة الله ووحيه، وتصحيح العقيدة، وإعلان كلمة التوحيد، حتى لا يبقى لهم عذر بالجهل بالأحكام أو الاعتقاد بعد بلوغ خبر الرسل لهم، وإكمال البيان، وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان وإقامة الحجة وبعثة الرسل.
وهذا يدل على مبلغ الحاجة الداعية إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.
تكذيب أهل مكة بالقرآن وبرسالة النبي صلّى الله عليه وسلم.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُواأُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)

البلاغة:
أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسىهنا: أي هلا للتحضيض، لا لامتناع الوجود.
قُلْ: فَأْتُوا بِكِتابٍ يراد بالأمر هنا التعجيز.
المفردات اللغوية:
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل على محمد الرسول المؤيد بالمعجزات.
أُوتِيَ هلا. مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما والكتاب جملة واحدة. أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي أولم يكفر أمثالهم من بني جنسهم في الرأي والمذهب، وهم كفرة زمان موسى، وكان فرعون عربيا من أبناء عاد. قالُوا: سِحْرانِ أي القرآن والتوراة، وقرئ: ساحران، أي موسى وهارون أو موسى ومحمد. تَظاهَرا تعاونا وتناصرا. وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ أي من النبيين والكتابين. كافِرُونَ جاحدون.
هُوَ أَهْدى مِنْهُما من الكتابين، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين: موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. صادِقِينَ في قولكم: إنا ساحران مختلفان، ويراد بذلك الإلزام والتبكيت. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي لدعائك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فحذف المفعول للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يعدّى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي، فإذا عدّي إليه حذف الدعاء غالبا، والمراد: فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به. يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ في كفرهم، إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ.. استفهام بمعنى النفي. بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ في موضع الحال للتأكيد، أو التقييد، فإن هوى النفس قد يوافق الحق. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى. وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أي أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير، فنزل القرآن منجما مفرقا يتصل بعضه ببعض، ويتبع نزول الكتب المتقدمة. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون فيؤمنوا ويطيعوا.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن كفار مكة وغيرهم أنهم عند الخوف من المصيبة

قالوا: هلا أرسلت إلينا رسولا، فنتّبع آياتك، بيّن أنه بعد إرسال الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم إلى أهل مكة قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من قبل، فكفروا وكذبوا بالقرآن وبرسالة محمد، وتعلقوا بشبهة قبل البعثة، وبعد البعثة، مما يدل على أنه لا قصد لهم سوى الزيغ والعناد، لذا طلبوا معجزات مادية كمعجزات موسى كاليد والعصا، وقد كفر أمثالهم المعاندون قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات، ووصفوه بالسحر، فإن استطاعوا الإتيان بكتاب آخر غير كتابي موسى ومحمد، فليأتوا به، وما أنزل القرآن منجما إلا لتجديد الذكرى والعبرة.
التفسير والبيان:
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا: أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أي حينما جاء الحق من عند الله وهو القرآن المنزل على رسول الله، قال أهل مكة الذين لم يأتهم رسول من قبل، على وجه التعنت والعناد والتمادي في الكفر والجهل والضلال: هلا أوتي محمد مثلما أوتي موسى قبله من المعجزات والآيات الكثيرة مثل العصا واليد وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى وانفجار الماء من الحجر، ونحو ذلك من الآيات الباهرة التي أجراها الله على يدي موسى حجة وبرهانا له على فرعون وقومه وبني إسرائيل.
ولكن هذا مجرد عناد ومكابرة وتهرب من الإيمان:
أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي أولم يكفر أمثالهم من البشر المعاندين بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة، وهم الذين كفروا في زمان موسى بما جاء به، فهذا شأن المكابرين المعاندين دائما.
قالُوا: سِحْرانِ تَظاهَرا، وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أي قال هؤلاء القوم المشركون في مكة: القرآن والتوراة سحران، ومحمد وموسى ساحران، تعاونا على التدجيل والتضليل، وصدّق كلّ منهما الآخر، وإنا بكلّ منهما

كافرون، لا نصدق بما جاءا به.
فتحداهم الله بأن يأتوا بكتاب آخر أهدى للبشر:
قُلْ: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل يا محمد لقومك: ائتوا بكتاب آخر من عند الله أصلح لهداية البشر من التوراة والقرآن، وأكثر نفعا وهداية، لكي أتبعه مع غيري، إن كنتم صادقين فيما تقولون أو تدّعون، وتدافعون به الحق، وتعارضون به من الباطل.
وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق، ولم يفعلوا ما كلفتهم به من الإيمان بالقرآن وبرسالتك، فاعلم أنهم في عقائدهم الباطلة يتبعون أهواءهم بلا دليل ولا حجة، فهم جماعة أهواء.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً أي وليس هناك أشد ضلالا عن طريق الهدى والرشاد ممن سار مع هواه، وانقاد لشهواته بغير حجة مأخوذة من كتاب الله، ولم يقم له دليل صائب عن الله، وهذا دليل على بطلان أو فساد التقليد في العقائد، وأنه لا بدّ من الحجة والاستدلال.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي إن الله لا يوفق للحق والرشاد الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والعصيان، وتكذيب الرسل، واتّباع الأهواء. وهذا عام يتناول كل كافر.
وأما حكمة إنزال القرآن منجما فهي:
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي ولقد أتبعنا بعض القرآن بعضا في النزول لقريش، حسبما تقتضي الحكمة، وتدل عليه المصلحة، ويلائم كل

عصر وأوان، لعلهم وأمثالهم من البشر يتعظون ويتنبهون إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، فيؤمنوا بالقرآن وبمن أنزله وبمن أنزل عليه، وهو مصدّق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- إن خطة الكفار واحدة في كل زمان، دأبهم المكابرة والعناد والإنكار، وطلب المعجزات المادية المحسوسة، فإنه بالرغم من حدوثها لن يؤمنوا لأن المكذب بمعجزة واحدة مكذب بكل المعجزات.
وإذا نزل على محمد صلّى الله عليه وسلم مثل معجزات موسى عليه السلام كانقلاب العصا حية، واليد البيضاء، وفلق البحر، وتظليل الغمام، وانفجار الحجر بالماء، وإنزال المنّ والسلوى، وكتابة الألواح في التوراة، وتكليم الله له، وإنزال القرآن جملة واحدة كالتوراة، إذا نزل مثل ذلك فهم معتصمون بالكفر مقيمون عليه.
٢- إن حجة الكفار في تكذيب كتب الله ورسله واحدة أيضا، وهي الاتهام بأن تلك الكتب سحر مختلق، وأولئك الرسل سحرة مبطلون، بل إنهم متواطئون على السحر والتدجيل، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
٣- إن اليهود علّموا المشركين أن يقولوا لمحمد صلّى الله عليه وسلم: لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة. وهؤلاء اليهود الذين توارثوا الكفر هم الذين كفروا بما جاء به موسى من قبل، فقالوا في موسى وهارون: هما ساحران، فقلدهم كفار قريش وقالوا عن موسى ومحمد مثل ذلك القول، واتفق الفريقان على الكفر بكلّ من التوراة والإنجيل والقرآن، وعلى الكفر بموسى وعيسى ومحمد على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.

٤- يقابل التحدي والعناد بتحدّ أشد منه، فإذا كفرتم معاشر اليهود والمشركين بكتب الله المنزلة على رسله، فأحضروا كتابا أهدى منها يتبعه الناس، ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر، ومسوغا لما أنتم عليه، إن كنتم صادقين في أن تلك الكتب سحر مفترى، وقد مهر اليهود والعرب بالسحر.
٥- إذا لم يؤمن الناس بهذا القرآن ولم يأتوا بكتاب من عند الله، فهم أهل ضلال وأهواء، يتبعون ما تملي عليهم شهواتهم وآراؤهم الخاصة وشياطينهم، دون حجة لهم ولا دليل.
٦- لا أحد أضل ممن سار مع هواه، فهو ظالم، والله لا يوفق الظالمين للخير، وهداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين.
٧- لقد تتابع إنزال الكتب من عند الله، وإرسال الرسل، وأخبار الأنبياء بعضها ببعض، كتابا بعد كتاب، ورسولا بعد رسول، وخبرا بعد خبر، وتتابع أيضا نزول القرآن منجما مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، وعلى وفق الحكمة والمصلحة، ليستمر صوت التذكير والتنبيه، وتتجدد الدعوة إلى الإيمان حالا بعد حال، وزمانا إثر زمان.
ثم خلد الله صوت الحق الإلهي بهذا القرآن، وجعله ذكرى متجددة دائمة للأجيال، بما تكفل له من الصون والحفظ عن التغيير والتبديل، والتحريف والتصحيف، وبما اشتمل عليه من التنوع في الأسلوب والخطاب وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ونصائح ومواعظ، إرادة أن يتذكر الناس به فيؤمنوا به ويعملوا بموجبه، فيفلحوا، ويقلعوا عن اتباع الأديان الباطلة المنسوخة، وعن الأهواء والشهوات البائدة الفارغة، والوثنية البدائية المنافية لكرامة الإنسان، والمصادمة للعقل البشري السوي.