إلى هواء، ويصرفهم هما جاء به موسى من الخطاب الذي هالهم سماعه، قالوا إن هامان لمتثل أمره حالا، وجمع خمسين ألف بنّاء مع كل واحد عملة كثيرون، وأمر بطبخ اللبن وهو الطوب النيء وطبخ الحجر، فعمل آجرا وكلسا، ونجر الخشب، وعمل المسامير، وضرب الحديد، وباشر بإسادة البناء، فأنشأوا له الصرح، وبالغوا في ارتفاعه إلى حد لم يبلغه منتهى البصر، وقد سخّر الله لهم ذلك ليفتنهم فيه، فلما فرغوا منه صعده فرعون راكبا على البرذون حتى بلغ رأسه، وصار يرمي بنشابه نحو السماء ففتنه ربه بأن أعاد له النبل ملطخا بالدم ليغتر ويدعي الإلهية الكبرى، ولما رأى ذلك نزل وقال قتلت إله السماء الذي يزعم موسى أنه إلهه وأنه أرسله إلينا، فبينا هو كذلك إذ بعث الله جبريل فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاثا، فطارت منه قطعة في البحر، وقطعة في الغرب، وقطعة على معسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف، ولم يبق أحد ممن عمل فيه شيئا إلا هلك، هكذا قال القصاص والأخباريون، إذ لم يرد فيه ما يعتمد عليه من حديث أو خبر في كيفية هذا الصرح وماهيته وما صار إليه لأن القرآن أثبت وجوده فقط، قال تعالى «وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ» أرض مصر لأن ملكه لا يتعداها كما تبين من قول
شعيب عليه السلام في الآية ٢٦ المارة، واستكباره هذا هو وقومه كان «بِغَيْرِ الْحَقِّ» لأنهم يعلمون أن فرعون ليس باله حقيقة وان ربه ورب السموات والأرض ومن فيهما هو الله وحده، ولكنهم جحدوا «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ» ٣٩ وانا لا نجازيهم على أعمالهم قال تعالى «فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ» على الصورة المبينة في الآية ٦٣ من سورة الشعراء المارة جزاء طغيانهم هذا في الدنيا «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل، واذكر لقومك «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» ٤٠ ليعتبروا ويتيقظوا من غفلتهم، علهم يرجعون عن عنادهم فيؤمنون بك قبل أن يحلّ بهم العذاب المقدر لهم
«وَجَعَلْناهُمْ» فرعون وقومه «أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ» قادة ورؤساء دعاة إليها، وقد أردنا بإرسال موسى إليهم أن يكونوا قادة إلى الجنة، فخذلناهم وجعلنا مصيرهم الهلاك غرقا «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» ٤٢
أيضا، بل يخذلون أسد من خذلان الدنيا، ويعذبون بأفظع من عذابها «وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً» طردا وبعدا وخزيا بأن جعلنا الناس تلعنهم خلفا عن سلف، وصاروا يضربون المثل لكل ظالم بفرعون وملئه ويلعنونهم «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ» ٤٢ إذ تشوه وجوههم بالسواد وأجسادهم وعيونهم بالزرقة، وزرقة العين مع السواد قبيحة جدا، ولذلك ترى زرقة العين في الدنيا عند بيض الأجسام والوجوه، ولا تجتمع زرقة العين مع سود الجوم البتة، وقد توجد في بعض السمر قليلا جدا بسبب الاختلاط في المناكحة، وهي مكروهة أيضا وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن. واعلم أنه لا يجوز لعن واحد بعينه سواء كان مسلما أو كافرا، إلا من تحقق موته على الكفر، أما لعن الجنس فيجوز، بأن تقول لعنة الله على الكافرين، على الظالمين، راجع الآية ٧٨ من سورة المائدة في ج ٣. ولهذا البحث صلة في الآية ٦٠ من سورة الإسراء الآتية فراجعه ففيه الكفاية. قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى» أقوام هود وصالح وإبراهيم ومن تقدمهم من قوم نوح، وانما قال تعالى من بعد إهلاك هؤلاء وهو أعلم إشعارا بأنها أي التوراة المعبر عنها بالكتاب، نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان مساس الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن العظيم على محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعين إلى لزوم إحداث لزوم تشريع جديد بتقرير الأحوال الباقية على مر الدهور وترتيب الفروع المبدّلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الماضية الخالية الموجبة للاعتبار، ومن لم يرشد إلى هذا فسّر القرون الاولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السّلام وهو ليس بشيء، وجعل هذا الكتاب وهو التوراة «بَصائِرَ لِلنَّاسِ» نورا لقلوبهم يبصرون بها الحقائق ويميزون بها بين الحق والباطل، إذ كانوا عميا عن الفهم والإدراك بالكلية، لأن البصيرة نور القلب الذي به يستضيئون، ويستبصر بالبصيرة أهل المعرفة، كما أن البصر العين الذي تبصر الحسيات المادية، «وَهُدىً» من الضلال إذا عملوا بها «وَرَحْمَةً» لمن
صفحة رقم 376
صدّق بها وآمن بمن أنزلت عليه «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ٤٣ بما فيها من المواعظ، وقد صح أن عمر رضي الله عنه استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال انا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا، فترى انكتب بعضها؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أتتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو أن موسى حي ما وسعه إلا اتباعي. ومعنى تتهوكون تتحيرون ومعنى بيضاء نقية لا تحتاج إلى شيء آخر.
مطلب في قراءة التوراة وما لعمر رضي الله عنه فيها ومناسبة السورة لما قبلها:
وفي رواية استأذنه في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها، فغضب صلّى الله عليه وسلم حتى عرف في وجهه ثم قال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي فرمى بها رضي الله عنه من يده، وندم على ذلك. وان سبب غضبه صلّى الله عليه وسلم هو أن عمر نقلها من التوراة التي بيد اليهود في المدينة، وكانت جلها محرّفة وفيها الزيادة التي وضعوها وعارية عن النقص الذي حذفوه، لمحاجة حضرة الرسول افتراء على الله، وكان الناس حديثي عهد بالكفر، فلو فتح حضرة الرسول باب المراجعة إلى التوراة وأجاز لهم مطالعتها في ذلك الزمن لأدى إلى إفساد العقائد، لأن الإسلام، حديث عهده، وجاءت أحكامه ناسخة للتوراة وغيرها من الكتب القديمة الصحيحة، فكيف بالمحرفة، وإلا لو كانت التوراة نفسها لما نهى عنها، لأن القرآن جاء مصدقا لها وللإنجيل وجميع الصحف السماوية، ومعدلا لبعض أحكامها مما هو في صالح البشر وموافق لعصرهم أما الآن فلا مانع من مطالعتها لمن له ملكة في العلوم، ومعرفة بكتب الله، وكان قويا في إيمانه وراسخا في عقيدته، عالما بالشرائع مما هو موافق منها لشرعنا وما هو مخالف له فيجتنب ما فيها مما هو مخالف للقرآن، ويقول بما فيها مما هو موافق له ويرشد الناس إلى ذلك، والدليل على جواز هذا قوله تعالى (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية ٦٣ من آل عمران في ج ٣، وكان عبد الله بن سلام وغيره من صادقي الإيمان ينقلون عنها ما ينقلون من الأخبار، ولم ينكر عليهم أحد، ولا فرق بين سماع ما ينقل عنهم وبين قراءتها أو أخذه منها، وقد رجع إليها كثير من العلماء إلى الزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض آياتها في إثبات حقيقة بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم، كالعالم الكبير رحمة الله الهندي صاحب
كتاب إظهار الحق الذي يحتاج إليه كل من يميل إلى مناظرة أهل الكتابين، أما ما قاله العلامة ابن حجر في تحفة المحتاج في تحريم مطالعتها لغير عالم فهو للخوف عليه، لئلا يختلط الأمر فيقع في حيص بيص، تدبر عليه وإلى هنا انتهت قصة موسى عليه السلام مع فرعون عليه اللعنة وشعيب عليه السلام، ووجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وكونها أتت بعد النمل لا بعد الشعراء على ما ذكره الجلال السيوطي رحمه الله هو أنه سبحانه وتعالى كما ذكر في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) الآية ١٧ إلى قوله (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ثم ذكر في سورة النمل قول موسى لأهله في الآية ١٦ المارة إني آنست نارا إلخ الآيات وكان الأمران على سبيل الإرشاد والإجمال بسط في هذه السورة ما أوجزه في السورتين المذكورتين، وفصّل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ جل شأنه بشرح تربية فرعون له وعلو شأنه على بني إسرائيل وإقدامه على ذبح أولادهم الموجب لإلقاء موسى في اليم خوفا عليه من الذبح، وبيّن تربيته وما وقع فيها أي السبب الذي من أجله قتل القبطي والنّم عليه الموجب فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب ومجيئه إلى الطور، ومناجاته ربه، وبعثه إلى فرعون، وكانت هذه السورة شارحة لما جاء في السورتين ومتممة لها، ولهذه الحكمة قدمت على سورة القصص وأخرت عن الشعراء في النزول وهي كذلك في المصاحف، فقد روى عن ابن عباس وجابر بن زيد أن سورة الشعراء نزلت، ثم النمل، ثم القصص وهكذا فإن أول كل سورة لها مناسبة مع آخر السورة قبلها، كما أن آخر كل سورة له مناسبة بأولها، وقد راعى هذه الجهة المفسر الكبير الإمام فخر الدين الرازي وأهمله أكثرهم، ثم شرع يعدد بعض نعمه على رسوله فخاطبه جل خطابه بقوله «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ» من الجبل الذي وقعت فيه مناجاة موسى لنا في الميقات الذي وقتناه له «إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ» بإنزال التوراة إليه لا كمال دينه وشرعه بعد أن عهدنا إليه بالرسالة على الصورة التي قصصناها عليك وشرفناه بالتكليم دون سائر الرسل «وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» ٤٤ ذلك الزمن والمقام ليقول لك قومك افتريته من نفسك، بل هو يوحينا إليك إذ
صفحة رقم 378
لم يشهد ذلك إلا السبعين الذين اختارهم موسى لحضور الميقات كما فصلناه في الآية ١٥٤ من سورة الأعراف المارة أما التشريف بالرسالة فلم يشهدها غير موسى، وأنت أمي لم تخرج من قريتك، فمن
أين لهم أن يتهموك بأن هذا القرآن سحر وكهانة أو من خرافات الأولين «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً» بعد موسى متتابعة إلى زمنك هذا كثيرة لا تعلمهم أنت ولا غيرك «فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» فنسوا عهد الله وتركوا أوامره التي من جملتها أخذ العهد عليهم بالإيمان بك واتباعك ولم يوفوا بما عاهدوا الله عليه بسبب نمادي الأمد وتغيير الشرائع والأحكام، فعميت عليهم الأنباء لكثرة عبثهم فيها واغترارهم بما خولناهم من النعم المادية والمعنوية ولا سيما قومك الذين سولت لهم أنفسهم عبادة الأوثان فاقتضت حكمتنا لهذه الأسباب أن ننزل عليك شرعا جديدا صالحا لعصرك وما بعده إلى يوم القيامة مما كان ثابتا في علمنا قديما، ونقصّ عليك الأنباء على ما هي عليه عند حدوثها تدريجا بحسب الوقائع كما هي مدونة في أزلنا لتذكرها لقومك وتأمرهم أن يعملوا بمقتضى ما نوحيه إليك مما هو مصدق للكتب القديمة من حيث الأحوال الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد حرفيّا، ومعدل لبعض الأحكام من حيث الفروع «وَما كُنْتَ» يا أكرم الرسل «ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ» كما كان شعيب قاطنا عندهم وسكن موسى عنده أول أمره كما علمت «تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» التي فيها قصتهما وتذكرها لقومك واعدا وموعدا كأنّك كنت معهما «وَلكِنَّا» نحن إله الأولين والآخرين «كُنَّا مُرْسِلِينَ» ٤٥ الرسل الهداية الخلق قديما، كما أرسلناك إلى هؤلاء الآن وقصصنا عليك اخبارهم وأممهم في هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، كما قصصنا على كل أمة أخبار من قبلها مع رسلهم، ولولا اعلامنا إياك فيه لما علمت شيئا من ذلك «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ» الجبل الذي وقعت عنده المناجاة «إِذْ نادَيْنا» موسى منه وآتيناه ما آتيناه وقلنا له خذ الكتاب بقوة وهي أعظم ما رأى موسى، فأخبرناك بها لنقصها على قومك أيضا «وَلكِنْ» رحمناك بها وشرفناك بالوحي والرسالة وأطلعناك على أخبار الأولين التي لا تعلمها أنت ولا قومك، وأعلمناك في هذا القرآن أخبار ما كان وما يكون
وجعلناك «رَحْمَةً» لأهل زمانك ومن بعدهم ممن اتبع هداك واسترشد برشدك مخصوصة لك وللناس أجمعين «مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» يخوفهم عقاب الله من بعد جدك إسماعيل.
مطلب أهل الفترة وعدد الأنبياء وتقسيمهم:
ولهذا سموا أهل الفترة إذ لم يرسل إليهم بعده رسولا لان عيسى ومن قبله أرسلوا خاصة لأقوام مخصوصين، فتطاول عليهم الأمد واندثرت آثار نبوة إسماعيل إذ كان بينها وبين نبوة محمد ما يزيد على ألفين وخمسمائة سنة، ولذلك لم يبق لها ذكر عند العرب، لانه لم يترك لهم كتابا يرجعون إليه وانقطعت رسالته بموته عليه السلام، لهذا أرسلناك إليهم «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ٤٦ عهدهم الأول ويعترفون برسالتك، وان ما تأمرهم به هو من عند الله لأن ما تذكره لهم في الأمور الغيبية دليل على صدق دعوتك ان كانوا ممن يتذكر فتنفعه الذكرى، وهذه الفترة خاصّة بالعرب، أما الفترة العامة للخلق فهي ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، الا أنهم لا يعدون ناجين كأولئك لأن عيسى ترك لهم كتابا كما ترك موسى من قبله قلم تنقطع عنهم آثار النبوة ليعدوا معذورين كالعرب، تأمل. ولهذا البحث صلة أول تفسير سورة السجدة في ج ٢ والآية ١٥ من سورة الإسراء الآتية فراجعه. قال العزّ بن سلام كل نبي إنما أرسل إلى قومه نسبا أو مصاهرة ليدخل لوط عليه السلام، الا سيدنا محمد إذ أرسل إلى الناس كافة، فعلى هذا يكون ما عدا قوم محمد، إذ لا نبي بعده، قوم كل نبي من أهل الفترة الا ذرية النبي السابق عليه، فإنهم يخاطبون ببعثة السابق حتى تدرس شريعته، فيصير الكل حينئذ من أهل الفترة. أما قوله تعالى في هذه الآية (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) وقوله (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) في الآية ٦ من سورة يس المارة وقوله (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآية ٣ من سورة السجدة في ج ٢، فلا تتعارض مع قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) الآية ٤٤ من سورة فاطر المارة وقوله (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) الآية ٤٤ من سورة سبأ في ج ٢، لأن العرب الأقدمين قبل إبراهيم أنذروا من قبل هود وصالح، وبعد ابراهيم انذروا من قبل إسماعيل
وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فجملة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر أو خمسة عشر، منهم العرب خمسة، والأنبياء الربانيون أيضا خمسة وهم آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم، أما إسحاق فمن بعده إلى عيسى عليه السلام فهم اسرائيليون وعبرانيون، إذ أن الأنبياء العبرانيبن بعضهم مثل بعض، فلا يعد أحد من أتباعهم من أهل الفترة لما ذكرنا أن التوراة بقي العمل بها إلى زمن عيسى، والإنجيل بقي العمل فيه وبالتوراة عدا ما عدل من أحكامها إلى زمن محمد، فكل من شذ عن اتباع أحكام التوراة إلى زمن عيسى فهو معذب، وكل من شذّ عن اتباع أحكام الإنجيل إلى زمن محمد فهو معذّب، لأن قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية ١٥ من الإسراء الآية لا تشمل هؤلاء لأنهم مكلفون العمل بالكتاب الذي تركه لهم نبيهم، أما العرب فإن أنبياءهم الأقدمين هود وصالح انقرضت أممهم أو اندثرت آثارهما، وشعيبا وإسماعيل انقطعت نبوتهما بموتهما، إذ لم ينزل عليها كتاب من الله يتركانه لقومهما ليعملوا به ويتبعوا آثارهما بمراجعته، ولم يدركا زمن التوراة، وأن الأنبياء العبرانيين لم يدعوا العرب إلى عبادة الله اخصص رسالتهم بقومهم، فلهذا أن العرب من بعدهما عدّوا أهل فترة إلى زمن بعثة محمد دون غيرهم، للأسباب المارة، تدبّر. ولهذا البحث صلة واسعة في الآية ١٥ من سورة الإسراء المشار إليها أعلاه، وقدمنا في سورة فاطر عند تفسير الآية ٢٤ المشار إليها آنفا ما يتعلق في هذا البحث، وما قيل إن العقل هو الرسول ينقيه قوله تعالى «وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ» بمال أو نفس عقوبة لهم أو انتقاما منهم «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الأعمال القبيحة «فَيَقُولُوا رَبَّنا» بحذف حرف النداء «لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» يدلنا عليك ويعرفنا أوامرك ونواهيك «فَنَتَّبِعَ آياتِكَ» المنزلة عليه «وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ٤٧ به يقول الله تعالى يا محمد لولا أن قومك يحتجون بهذه الحجة لعاجلناهم بالعذاب وأهلكناهم بضيعهم، ولما بعثناك إليهم، ولكن لقطع هذا الاحتجاج أرسلناك إليهم، فمن يقول هذا القول ويحتج بهذه الحجة لا يقال انه لا عقل له حتى يؤول الرسول بآية الإسراء المارة
صفحة رقم 381
بالعقل، وكيف تترك الحقيقة ويصار إلى المجاز دون صارف ملزم بالجنوح إلى المجاز لعدم إمكان استعمال الحقيقة، وإذ لا فلا، لذلك فان تأويل الرسول بالعقل على غير ظاهره لا عبرة به، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا» وهو إرسالك إليهم المؤيد بالقرآن
المنزل عليك «قالُوا» هؤلاء العتاة «لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى» من الآيات كالعصا واليد والكتاب المجسم دفعة واحدة لآمنا به، وإذ لم يؤت شيئا من ذلك فلا نؤمن به تجبرا وعتوا وعنادا بك، وتكبرا عن الأخذ بما أنزل إليك واعتراضا على الله الذي له أن يخص من أنبيائه بما شاء من المعجزات فقل لهم «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا» يجحدوا وينكروا هؤلاء اليهود الذين كلفوا قومك أن يقترحوا عليك هذا الاقتراح «بِما أُوتِيَ مُوسى» من الآيات والكتاب «مِنْ قَبْلُ» إنزال القرآن عليك وكفروا بما جاءهم موسى ولم يمتثلوا الأخذ به إلا قسرا يرفع الجبل فوقهم وتهديدهم بأنه إذا لم يقبلوا أحكام التوراة أطبقه الله عليهم وأهلكهم به، راجع الآية ١٧٠ من الأعراف المارة «وَقالُوا» هؤلاء الكفرة حين بعثوا إلى رؤوس اليهود في المدينة يسألونهم عن محمد، فأخبروهم أن قصته موجودة في التوراة ولكنهم لا يعلمون انه هو، أو أن اليهود لما فشا أمر محمد صلّى الله عليه وسلم في مكة أرسلوا إلى قريش بأن يسألوا محمدا أن يظهر لهم معجزات مثل موسى إن كان ما يدعيه حقا، فأنزل الله هذه الآية تبكيتا لهم وتقريعا بهم، إذا كان عليهم بدلا من أن يسألوه أن يؤمنوا به لأنه مرسل لهدايتهم وإرشادهم «سِحْرانِ تَظاهَرا» أي قال الكفرة من قريش ان ما أنزل إلى موسى وما أنزل إلى محمد عبارة عن سحرين تعاونا لتقوية بعضهم بعضا، لأن كلا من المنزل عليهما موسى ومحمد يريد إظهار حجته على طريق السحر «وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ» من موسى ومحمد وكتابيهما «كافِرُونَ» ٤٨ جاحدون لا نصدق بأحد منهما ولا بما جاءا به قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك وأهل الكتاب الذين هم في زمنك الذين تخابروا بشأنك وكتابك إن كنتم تكفرون بكل ذلك «فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما» أي التوراة والإنجيل «أَتَّبِعْهُ» أنا، أمره ربه أن يتحداهم بهذا على عجزهم عن الإتيان به «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٤٩