آيات من القرآن الكريم

وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٢]

وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
إِتْبَاعُهُمْ بِاللَّعْنَةِ فِي الدُّنْيَا جَعْلُ اللَّعْنَةِ مُلَازِمَةً لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدَّرَ لَهُمْ هَلَاكًا لَا رَحْمَةَ فِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ بِالْإِتْبَاعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يُفَارِقُ مَتْبُوعَهُ، وَكَانَت تِلْكَ عَاقِبَةُ تِلْكَ اللَّعْنَةِ إِلْقَاءَهُمْ فِي الْيَمِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّعْنَةِ لَعْنُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَلْعَنُونَهُمْ.
وَجَزَاؤُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَالْمَقْبُوحُ الْمَشْتُومُ بِكَلِمَةِ (قُبِّحَ)، أَيْ قَبَّحَهُ اللَّهُ أَوِ النَّاسُ، أَيْ جَعَلَهُ قَبِيحًا بَيْنَ النَّاسِ فِي أَعْمَالِهِ أَيْ مَذْمُومًا، يُقَالُ: قَبَحَهُ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ فَهُوَ مَقْبُوحٌ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيُقَالُ: قَبَّحَهُ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الْقَبِيحِ فَهُوَ مُقَبَّحٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ مِمَّا قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: «فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ» أَيْ فَلَا يُجْعَلُ قَوْلِي قَبِيحًا عِنْدَهُ غَيْرَ مَرْضِيٍّ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الدُّنْيَا بِ هذِهِ لِتَهْوِينِ أَمْرِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ.
وَالتَّخَالُفُ بَيْنَ صِيغَتَيْ قَوْلِهِ وَأَتْبَعْناهُمْ وَقَوْلِهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ فِي الدُّنْيَا قَدِ انْتَهَى أَمْرُهَا بِإِغْرَاقِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ لَعْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ فِي أَحْيَانِ يَذْكُرُونَهُمْ، فَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ فَجِيءَ مَعَهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَأَمَّا تَقْبِيحُ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ دَائِمٌ مَعَهُمْ مُلَازِمٌ لَهُمْ فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِالِاسْمِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ.
وَضَمِيرُ هُمْ فِي قَوْلِهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ لَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ وَلَكِنَّهُ ضَمِيرُ مُبْتَدَأٍ وَبِهِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً دَالَّةً عَلَى ثَبَاتِ التَّقْبِيحِ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة.
[٤٣]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ [الْقَصَص: ٣٠] إِلَى هُنَا الِاعْتِبَارُ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ الْقَائِلِينَ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] لِيُقَاسَ النَّظِيرُ

صفحة رقم 127

عَلَى النَّظِيرِ، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَهُ حَقًّا لَكَانَ أُرْسِلَ إِلَى الْأَجْيَالِ مِنْ قَبْلِهِ، وَلَمَا كَانَ اللَّهُ يَتْرُكُ الْأَجْيَالَ الَّتِي قَبْلَهُمْ بِدُونِ رِسَالَةِ رَسُولٍ ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الْجِيلِ الْأَخِيرِ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى إِتْمَامًا لِتَنْظِيرِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ لَا رِسَالَةَ فِيهَا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَبْقَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ شَيْءٌ وَاقِعٌ بِشَهَادَةِ التَّوَاتُرِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَرَتَّبَ عَلَى تَكْذِيبِ الْأُمَمِ رُسُلَهُمْ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ الْأُولَى فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِاسْتِمْرَارِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مُتَعَاقِبِينَ بَلْ كَانُوا يَجِيئُونَ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَاوِلُونَ بِقَوْلِهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] إِبْطَالَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلَّةِ تَأَخُّرِ زَمَانِهَا سَفْسَطَةً وَوَهَمًا فَإِنَّ دَلِيلَهُمْ مَقْدُوحٌ فِيهِ بِقَادِحِ الْقَلْبِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءُوا إِلَى الْأُمَمِ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ جَاءَ مُوسَى بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا بَهَرَهُمْ أَمْرُ الْإِسْلَامِ لَاذُوا بِالْيَهُودِ يَسْتَرْشِدُونَهُمْ فِي طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ الدِّينِيَّةِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَخْلِطُونَ مَا يُلَقِّنُهُمُ الْيَهُودُ مِنَ الْمُغَالَطَاتِ بِمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ تَضْلِيلِ أَيِمَّةِ الشِّرْكِ فَيَأْتُونَ بِكَلَامٍ يَلْعَنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَرَّةً يَقُولُونَ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] وَهُوَ مِنْ مُجَادَلَاتِ الْأُمِّيِّينَ، وَمرَّة يَقُولُونَ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] وَهُوَ من تلقين الْيَهُود، وَمَرَّةً يَقُولُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، فَكَانَ الْقُرْآنُ يَدْمَغُ بَاطِلَهُمْ بِحُجَّةِ الْحَقِّ بِإِلْزَامِهِمْ تَنَاقُضَ مَقَالَاتِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ حُجَّةٌ بِتَنْظِيرِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ بِرِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ذِكْرُ الْقُرُونِ الْأُولَى.
وَأَمَّا ذِكْرُ إِهْلَاكِهِمْ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلنِّذَارَةِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى تَخَلُّصٌ مِنْ قِصَّةِ بِعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَأْيِيدِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ (مِنْ بَعْدِ الْقُرُونَ الْأُولَى).
ثُمَّ إِنَّ الْقُرْآنَ أَعْرَضَ عَنْ بَيَانِ حِكْمَةِ الْفِتَرِ الَّتِي تَسْبِقُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي الْإِرْسَالِ عَقِبَهَا لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فِي مَقَامِ نَقْضِ حُجَّةِ الْمُبْطِلِينَ

صفحة رقم 128
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية