
٣٢ - وقوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ قال مجاهد: اضمم إليك يدك من الفَرَق (١). وهذا قول جميع المفسرين؛ قالوا: لما ألقى موسى عصاه فصارت جانًا رَهِبَ وفَزعَ، فأمره الله أن يضم إليه جناحه ليذهب عنه الفَزَع (٢).
قال مجاهد: كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع؛ وقرأ هذه الآية (٣). قال الزجاج: والمعنى في جناحك هاهنا: العضد. ويقال: اليد كلها جَناح (٤).
وقال الفراء: الجَناح ما بين أسفل العَضُد إلى الرُّفْغ، وهو: الإبْط (٥).
وقرئ (الرُّهْبِ) و (الرَّهَبِ) (٦) ومعناهما جميعًا واحد، مثل: الرُّشْد والرَّشَد (٧).
قال أبو علي: قال أبو عبيدة: جناحا الرجل: يداه (٨). وقال غيره في
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٩، عن قتادة "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ. ولم ينسبه. ونسبه لمجاهد ابنُ الجوزي ٦/ ٢٢٠.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٦. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣. الرَّفْغُ، والرُّفْغُ: لغتان، وهي: الآباط، والمغابن من الجسد. "تهذيب اللغة" ٨/ ١٠٨ (رفغ).
(٦) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ بفتح الراء والهاء، وقرا عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ بضم الراء وسكون الهاء. "السبعة في القراءات" ٤٩٣، و"الحجة" ٥/ ٤١٤، و"النشر" ٢/ ٣٤١.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
(٨) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٤. بنصه، وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٤: ﴿جَنَاحَكَ﴾ أي: يدك.

الآية: إنه العضد (١). وقول أبي عبيدة أبين عندنا. قال: وقد جاء الاسم المفرد يراد به التثنية، وأنشد أبو الحسن:
يداكَ يدٌ إحداهما الجودُ كُلُّه | وراحتُك الأخرى طِعَانٌ تغامره (٢) |
وعَينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ | شُقَّتْ مَآقيهما من أُخُر (٣) |
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٨، من إنشاد أبي الحسن، والبيت للفرزدق ١/ ٢٧٦، من قصيدة يمدح فيها أسد ابن عبد الله القسري، ورواية الديوان مختلفة:
يداك يد إحداهما النبل والندى | وراحتها الأخرى طعان تعاوره |
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٨، من إنشاد أبي الحسن، ونسبه أبو علي لامرئ القيس، "شرح الأبيات المشكلة" ١/ ٢١١، وحدرة بدرة، أي: مكتنزة صلبة ضخمة، بدرة: يبدو بالنظر، وشقت مآقيهما: تفتحت فكأنها انشقت، وقوله: من أخر، أي: من مآخير العين. "شرح الأبيات المشكلة"، وحاشيته. والبيت في "ديوان امرئ القيس" ١١٦، يصف فرسا. وأنشده البغدادي، "الخزانة" ٥/ ١٩٧، ولم ينسبه.

فإن تزجراني يا ابن عَفَّانَ انزجرْ (١)
ومن الناس من يحمل قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] على ذلك. انتهى كلامه (٢). وقد جاء من هذا أن قوله: ﴿جَنَاحَكَ﴾ معناه: يداك، و ﴿الرَّهْبِ﴾: الخوف (٣). والمعنى ما ذكره مجاهد. ونحو ذلك قال ابن عباس فيما روى عنه عطاء؛ قال: يريد: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف، ولا خوف عليك. والمعنى على هذا: أن الله أمره أن يضم يده إلى صدره، فيذهب الله عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية (٤). وتقدير الآية على هذا المعنى: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ معالجًا من الرَّهْبِ، أو ما أشبه هذا من التقدير؛ لأنه أُمر بضم الجَناح إليه ليذهب عنه الفزع، ويعالج بذلك ما ناله من الفزع.
وقال الفراء في تفسير الجناح في هذه الآية: إنه العصا (٥).
وقال مقاتل: يعني عصاك مع يدك (٦).
وإن تدعاني أَحمِ عِرضًا ممنعًا
وأنشده البغدادي "الخزانة" ١١/ ١٧، ولم ينسبه. وأنشده ابن قتيبة "تأويل مشكل القرآن" ٢٩١، ولم ينسبه. وفي حاشيته: كان سويد قد هجا بني عبد الله بن دارم فاستعدوا عليه سعيد بن عثمان بن عفان، فقال سويد قصيدته.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٩، من قوله: وقول أبي عبيدة أبين عندنا.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٦.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٥ ب.

هذا الذي ذكرنا قول المفسرين.
وقال أبو علي الفارسي في هذه الآية: ذُكر لموسى الخوفُ في مواضع من التنزيل؛ كقوله: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ [القصص: ٢١] و ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: ٢٥] وقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ [الشعراء: ١٢] وقال: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾ [طه: ٤٦] ﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا﴾ [طه: ٤٥] ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ [طه: ٦٧] وقال ﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: ٧٧]. فلما أضاف -عليه السلام- الخوفَ في هذه المواضع إلى نفسه، أو نُزِّلَ منزلة من أضافه إلى نفسه، قيل له: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ فأُمر بالعزم على ما أُريد له مما أُمر به، وحُضَّ على الجدِّ فيه؛ لئلا يمنعه من ذلك الخوفُ والرهبةُ التي قد تغشاه في بعض الأحوال (١)، وأن لا يستشعر ذلك فيكون مانعًا له مما أمر بالمضي فيه. وليس يراد بضم الجناح هاهنا: الضم المُزيل للفُرْجة والخصاصة (٢) بين الشيئين، كقول الشاعر:
اُشْدُدْ حيازيمَكَ للموت... فإن الموتَ لاقيكَ (٣)
(٢) الخصاصة: الخَلَل، خصاص المنخل، والباب، والبرقع: خللَّه، واحدته: خصاصة. "تهذيب اللغة" ٦/ ٥٥١ (خص).
(٣) "الحجة" ٥/ ٤١٦، ولم ينسب البيت. وأنشده المبرد مع بيت آخر، وهو:
ولا تجزع من الموت... إذا حل بواديكا
ونسبهما لعلي -رضي الله عنه-، قالهما بعد أن أُتي بابن ملجم وقيل له: إنا سمعنا من هذا كلامًا ولا نأمن قتله لك، فقال: ما أصنع به، ثم قال هذين البيتين. "الكامل" ٣/ ١١٢١. وأنشد البيت الأول في "اللسان" ١٢/ ١٣٢ (حزم)، وقال: حيازيمك: جمع: الحيزوم: وهو الصدر، وقيل: وسطه. وهو في ديوان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ١٤٠، مع عدد من الأبيات.

ليس يريد به الشد الذي هو الربط والضم، وإنما يريد: تأهب له واستعد للقائه حتى لا تهاب لقاءه، ولا تجزع من وقوعه. هذا كلامه (١). والمعنى على هذا: فشمر واستعد. والتقدير: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ خارجًا من الرهب.
وذكر الأزهري قال: قال (٢) مقاتل في قوله: ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ أرادكُمَّ مِدْرَعَته (٣).
وروى ثعلب عن عمرو (٤) عن أبيه قال: يقال لِكُمِّ القميص: القُنُّ والرُّدْن والخِلاف. وحكى عن ابن الأعرابي: أَرْهَبَ الرجلُ: إذا أطال رَهَبَه؛ وهو: كُمَّه.
قال الأزهري: وأكثر المفسرين ذهبوا في قوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ أنه بمعنى الرهبة (٥)، ولو وجدت إمامًا من أهل التفسير يجعل الرهب كُمًا لذهبت إليه؛ لأنه أشبه بالتفسير، وأليق بمعنى الكلام، والله أعلم بما أراد. هذا كلامه (٦). وهو متناقض؛ لأنه حكى عن
(٢) هكذا في جميع النسخ: وذكر الأزهري قال: قال مقاتل. يعني: أن الأزهري قد ذكر قول مقاتل.
(٣) "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٩٢ (رهب)، ولم أجده في "تفسير مقاتل". ولم ترد كلمة: ﴿الرَّهْبِ﴾ في كتاب الله -عز وجل- إلا في هذا الموضع. "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" ٣٢٥. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٦ أ، ونسبه لأهل المعاني. والمدرعة: نوع من الثياب التي تلبس، ولا يكون إلا من صوف. "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠١ (درع).
(٤) عمرو بن أبي عمرو الشيباني.
(٥) ذكر ذلك أبو عبيدة "مجاز القرآن" ٢/ ١٠٤، ولم ينسبه.
(٦) "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٩٢ (رهب). وفيه قال الأزهري: ولو وجدت إمامًا من السلف..

مقاتل أنه قال في الرهب: إنه كُم مِدْرَعَتِه. ثم قال: لو وجدت إمامًا من أهل التفسير يجعل الرهب كُمًّا لذهبت إليه (١).
ثم قال: لأنه أشبه بالتفسير، وليس الأمر على ما ذكر؛ كيف يكون أشبه ولا معنى لقولك: واضمم إليك جناحك من الكم وكيف يكون ما ذكر أشبه بالتفسير؛ وقد قال مِقْسم في قوله: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ إنما قيل: في جيبك؛ لأنه لم يكن له كم، كانت زُرْمَانقة (٢).
وذكر المفسرون: أن موسى كانت عليه تلك الليلة مِدْرَعة من صوف مُضَرَّبة، لا كُمَّ لها (٣). وإذا صح هذا فكيف يجوز أن (٤) يحمل الرهب على الكم؟ مع أنا لو ارتكبنا هذا لم يخرج للكلام معنى صحيح. وروى حفص عن عاصم ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ بفتح الراء وجزم الهاء (٥)، وهو لغة في: الرَّهَب الذي هو بمعنى: الكُم (٦).
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٠، في تفسير سورة النمل، عن ابن عباس، من طريق مقسم، وليس فيها: زرمانقة، بل: جبة من صوف. والزرمانقة: جبة صوف. "تهذيب اللغة" ٩/ ٤٠٢ (زرمانق).
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٨، عن مجاهد وابن مسعود. والضريبة: الصوف يضرب بالمطرَق، ويطلق على: الصوف أو الشعر ينفش ثم يدرج ليغزل. "تهذيب اللغة" ١٢، ١٩/ ٢٠ (ضرب).
(٤) يجوز أن. زيادة من نسخة (ج).
(٥) "السبعة في القراءات" ٤٩٣، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٤.
(٦) "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٩٢ (رهب).

وقوله: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني اليد والعصا، حجتان من الله تعالى لموسى على صدقه (١). وقُرئ ﴿فَذَانِكَ﴾ بتخفيف النون وتشديده (٢).
قال أبو عبيد: كان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد [من بين إخوانه. ويحكى أن التشديد لغة قريش (٣)، قال أبو إسحاق: التشديد] (٤) يشبه ذلك، والتخفيف يشبه ذاك، جعل بدل اللام في ذلك تشديد النون في: ﴿ذَانَّكَ﴾ (٥). وهذا قول الأخفش؛ قال: أدخلوا التثقيل للتأكيد، كما أدخلوا اللام في ذلك (٦). وهذا مما قد تقدم القول فيه في سورة النساء (٧).
وروى شِبل عن ابن كثير: ﴿فَذَانِيكَ﴾ خفيفة النون بياء (٨)؛ كأنه أبدل من الثانية الياء كراهية التضعيف، كما أنشد أبو زيد:
فآليت لا أَشْرِيه حتى يَمَلَّنِي | بشيء ولا أمْلاهُ حتى يُفارقا (٩) |
(٢) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ﴿فَذَانِكَ﴾ مشددة النون، وقرأ الباقون: ﴿فَذَانِكَ﴾ بالتخفيف. "السبعة" ٤٩٣، و"الحجة" ٥/ ٤١٩، و"النشر" ٢/ ٣٤١.
(٣) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٧٤، ولم يذكر أبا عبيد.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
(٦) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٣. قال المبرد: تبدل من اللام نونًا، وتدغم إحدى النونين في الأخرى. "المقتضب" ٣/ ٢٧٥. وذكر ذلك أيضًا ابن جني، "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٤٨٧.
(٧) ذكره في تفسير الآية: ١٦ ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾.
(٨) "السبعة" ٤٩٣، و"الحجة" ٥/ ٤١٩، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" ٢/ ١٧٤.
(٩) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٠، ونسبه لأبي زيد. وهو في "النوادر" ٤٤، مع بيتين قبله منسوبًا للأسود بن يعفر النهشلي، بلفظ: =