
والتنين مقتولا ارتاح لذلك، ولما رجع إلى شعيب مسّ الغنم، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن، فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا، وقال له: إنى وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع ودرعاء»
، فأوحى إليه في المنام: أن اضرب بعصاك مستقى الغنم، ففعل، ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء، فوفى له بشرطه
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى الأجلين قضى موسى؟ فقال: أبعدهما وأبطأهما «٢».
وروى أنه قال: قضى أوفاهما، وتزوّج صغراهما. وهذا خلاف الرواية التي سبقت. الجذوة- باللغات الثلاث. وقرئ بهنّ جميعا-: العود الغليظ، كانت في رأسه نار أو لم تكن، قال كثير:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها | جزل الجذى غير خوّار ولا دعر «٣» |
وردعته بالشيء فارتدع، أى: لطخته به فتلطخ اه، فالأردع: شبيه المتلطخ بلون آخر. ولفظ الخازن: أبلق وبلقاء. (ع)
(٢). أخرجه الحاكم من طريق ابن عيينة عن إبراهيم بن يحيى عن عكرمة عن ابن عباس بهذا قلت. وإبراهيم مجهول. وقوله: وروى أنه قال قضى أوفاهما وتزوج من صغراهما: أخرجه الطبراني والبزار من طريق عويد بن أبى عمران الجونى عنه عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر «أن النبي ﷺ سئل: أى الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرهما، قال وسئل أى المرأتين تزوج؟ قال الصغرى منهما» وعويد ضعيف وفي ابن مردويه من حديث أبى هريرة رفعه «قال لي جبريل: إن سألك اليهودي: أى الأجلين قضى موسى؟ فقل أوفاهما وإن سألك أيهما تزوج؟ فقل الصغرى منهما» وفي إسناده سليمان الشاذكوني وهو ضعيف.
(٣). لابن مقبل. والحواطب: الجواري يطلبن الحطب، والالتماس- بحسب الأصل-: من اللمس.» ثم اتسع فيه. والجذل: الحطب الغليظ اليابس: والجذى: جمع جذوة بتثليث الجيم فيهما وهي العود الغليظ في رأسه نار أولا. والخوار: الضعيف. والخور معيب، إلا في قولهم: ناقة خوارة، أى كثيرة اللبن. ونخلة خوارة:
كثيرة الحمل. ودعر العود دعرا كتعب كثر دخانه، فهو دعر كحذر. والدعر أيضا: السوس والفساد. والدعار:
الفسق والخبث، وغير خوار: حال من جزل الجذى.

وقال:
وألقى على قبس من النّار جذوة | شديدا عليه حرها والتهابها «١» |
ومِنَ الشَّجَرَةِ بدل من قوله: من شاطئ الوادي، بدل الاشتمال، لأنّ الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، كقوله تعالى لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ وقرئ: الْبُقْعَةِ بالضم والفتح.
والرَّهْبِ بفتحتين، وضمتين، وفتح وسكون، وضم وسكون: وهو الخوف. فإن قلت: ما معنى قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: أنّ موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية: فزع واضطرب، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له:
إنّ اتقاءك بيدك فيه غضاضة «٢» عند الأعداء. فإذا ألقيتها فكما تنقلب «٣» حية، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى. والمراد بالجناح: اليد، لأنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر. وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى، فقد ضمّ جناحه إليه. والثاني: أن يراد بضم جناحه إليه: تجلده وضبطه نفسه. وتشدّده عند انقلاب العصاحية حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما. وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أنّ كاتبا له كان يكتب بين يديه، فانفلتت منه فلتة ريح، فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الأرض، فقال له عمر: خذ قلمك، واضمم إليك جناحك، وليفرخ روعك «٤»، فإنى ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. ومعنى قوله مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب، أى: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك: جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ على أحد التفسيرين: واحد. ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرّر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء
(٢). قوله «فيه غضاضة» أى: ذلة ومنقصة، كما في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «فكما تنقلب حية» أى: فعند ما تنقلب. (ع) [.....]
(٤). قوله «وليفرخ روعك» أى ليذهب فزعك. أفاده الصحاح. (ع)